أُجبرت هدى الصراري على النفي بعد أن حظي عملها في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي القوات الإماراتية المدعومة من الولايات المتحدة باهتمام عالمي.
المحامية اليمنية هدى الصراري كانت تمثل النساء في قضايا العنف المنزلي والعنف المجتمعي، عندما بدأت في عام 2015 في توجيه صرخة مختلفة لطلب المساعدة، لكن دورها في مجال حقوق الإنسان امتد لأبعد من ذلك منذ اندلاع الحرب اليمنية وشمل الانتهاكات المرتكبة ضد المدنيين من قبل أطراف النزاع، ولا سيما القوات الإماراتية.
عندما تحول الصراع الأهلي في اليمن إلى حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية، كانت النساء تتصل بالصراري في منتصف الليل لإخبارها أن منازلهم قد تم اقتحامها للتو وأن أزواجهن وأبنائهن وإخوتهن قد تم اعتقالهم أو الاعتداء عليهم، فيما كانت تتلقى اتصالات من آخرين بعد أن أمضوا أيامًا في البحث عن ذويهم في السجون ومراكز الشرطة، والتوسل إلى المسؤولين الذين يخبرونهم أنهم ليسوا على صلة باحتجاز الرجال أو معرفة مكان وجودهم.
في حوار مطول أجراه موقع الانترسبت مع الصراري، كشفت الصراري أن “هذه العائلات كانت تقول: ساعدينا، لقد اُختطف أبناؤنا”، وتابعت “كان من الصعب أن أسمع عن هذه الانتهاكات وأقف مكتوفة الأيدي”.
بدأت حالات الاختفاء في الانتشار بعد فترة وجيزة من تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن بدعم من الولايات المتحدة وشاركت فيه قوى إقليمية أخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة.
خلال الحملة، سيطرت الإمارات على مساحات شاسعة من جنوب اليمن، ومع ازدياد عدد المختفين قسرياً في مدينة عدن وبالقرب منها بالمئات، بدأت التقارير تنتشر عن اعتقال الرجال وتعريضهم للتعذيب على أيدي قوات الأمن اليمنية غير الرسمية التي أشرفت الإمارات على تدريبها وتسليحها.
بدأت الصراري، مع مجموعة من المحامين والنشطاء الآخرين، في التحقيق بهدوء في هذه التقارير، وتُوجت جهودهم التوثيقية الدقيقة بقاعدة بيانات تضمنت بعد فترة من التقصي أسماء أكثر من 10000 رجل وصبي، تم اعتقال معظمهم خارج نطاق النظام القضائي للدولة، كما ساعدت هذه القاعدة في فضح شبكة من السجون السرية تديرها الإمارات بمعرفة القوات الأمريكية وفي بعض الأحيان بمشاركة مباشرة لها.
كان عمل الصراري وزملائها محورياً في التقارير الرائدة التي نشرتها وكالة أسوشيتد برس وهيومن رايتس ووتش عام 2017. ساهم أيضاً في الكشف عن انتهاكات التحالف في جنوب اليمن، وتورط القوى الأجنبية في الصراع الأهلي في البلاد، وكذلك من انتهاكات حقوق الإنسان التي يستمر ارتكابها من قبل حلفاء الولايات المتحدة باسم مكافحة الإرهاب.
ساهمت جهود التوثيق كذلك في الإفراج عن أكثر من 260 محتجزًا في الأشهر التي أعقبت نشر التقارير، ووفرت أدلة أساسية حيث يطالب عدد متزايد من الفاعلين الدوليين بالمساءلة عن الانتهاكات الواسعة النطاق التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع اليمني.
في هذا السياق، أوضحت الصراري أن أكثر من 1000 شخص ما زالوا محتجزين حتى يومنا هذا، وأكثر من 40 في عداد المفقودين، ومصيرهم ومكانهم غير معروف.
هويات العديد من الأشخاص الذين وثقوا الانتهاكات غير معروفة علنا، بسبب خوفهم من الانتقام في اليمن، لكن الصراري ظهرت في مقابلات إعلامية وتحدثت بوضوح عن دورها في رصد وتوثيق هذه الانتهاكات، وهو اعتراف جعلها هدفاً للانتقام من قبل أطراف النزاع، ولاسيما الإمارات.
واجهت حملة تشهير لا هوادة فيها، فضلاً عن التهديدات ومحاولات الترويع المستمرة التي طالت أهلها، والذين بدورهم طلبوا منها التوقف عن نشر هذه التقارير، قائلين لها “إذا لم تخافي على نفسك، خافي على أطفالك، خافي على سمعتك “.
لم تتوقف الصراري، وفي المقابل لم تتوقف التهديدات، وبعد أربع سنوات، أصبح لعملها تأثير سلبي واضح على حياتها الشخصية، إذ اضطرت الصراري إلى الفرار من اليمن عام 2019 بعد أشهر من مقتل ابنها، في واقعة تعتقد أنها انتقامية من الدرجة الأولى بسبب عملها في الملف الحقوقي.
تعيش الصراري الآن في بلد طلبت من “الانترسبت” عدم ذكر اسمه، ومع ذلك، لايزال عملها في رصد وتوثيق الانتهاكات مستمراً، إذ تتلقى اتصالات ومكالمات من أبناء وطنها، معظمهم من الأمهات المكلومات، الذين يواصلون نقل الانتهاكات إليها، وبدورها تقوم بالتحقيق فيها.
حتى من المنفى، تفضل التحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في اليمن بدلاً من الحديث عن التكلفة التي دفعتها مقابل فضح تلك الجرائم.
“سأواصل عملي؛ لم أندم قط على ما فعلته على الرغم من الخسارة التي تكبدتها، أصبحت الآن غير قادرة على العيش في اليمن والبقاء مع عائلتي، لكن كمحامية ومدافعة عن حقوق الإنسان هذه مسؤوليتي. عليك أن تدافع عن هؤلاء الضحايا لأنه ليس لديهم أي شخص آخر يلجؤون إليه “.
سجون اللاعودة
جاءت الحملة التي تقودها السعودية في اليمن ردًا على تمرد للحوثيين، حركة متمردة شيعية استولت عام 2014 على العاصمة صنعاء، وأجبرت الرئيس عبد ربه منصور هادي المدعوم من السعودية على الفرار من البلاد.
منذ الإطاحة بالرئيس، سيطر الحوثيون على معظم شمال البلاد، لكن في عام 2015 سيطروا لفترة وجيزة على أجزاء من الجنوب، بما في ذلك مدينة عدن الساحلية، حيث كانت تعيش الصراري، لكن تم طردهم منها بدعم من الولايات المتحدة من قبل التحالف الذي تقوده السعودية، الذي يعتقد أن الحوثيين مدعومون من إيران، وهي خصم رئيسي للسعودية.
بعد الحملة، أقامت القوات الإماراتية قواعد في الجنوب، حيث نفذت -ظاهرياً- حملة مكافحة الإرهاب راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين الذين لم تثبت صلتهم بالجماعات الإرهابية.
بالرغم من هذه الانتهاكات، أشاد كبار المسؤولين الأمريكيين بالطرق التي قادت بها الإمارات والسعودية عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة، كما أشاد نائب مدير وكالة المخابرات المركزية السابق، مايكل موريل، بدور الإمارات في جنوب اليمن باعتباره “حلًا نموذجيًا للتعامل مع الجماعات الإرهابية”، كما أطلق المسؤولون العسكريون الأمريكيون على الإمارات لقب “سبارتا الصغيرة”.
مع إعلان عدن كعاصمة مؤقتة للحكومة اليمنية المخلوعة، شرعت الإمارات في إنشاء جهاز أمني ضخم كان موجودًا بالتوازي مع الجهاز الرسمي، وبدلاً من إعادة بناء المؤسسات اليمنية، قاموا بتدريب وتسليح نظام من القوات الخاصة اليمنية التابعة “اسمياً” للرئيس المنفي، ولكنها في الواقع جماعات تقودها الإمارات.
سرعان ما اتُهمت تلك القوات، التي ضمت “الحزام الأمني” في عدن و “قوات النخبة الحضرمية” في حضرموت، بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق، وبالرغم من انسحاب القوات الإماراتية من اليمن في عام 2020، إلا أنها استمرت في ممارسة نفوذ كبير في الجنوب.
أوضحت الصراري أن “الإمارات شكلت هذه الميليشيات خارج إطار الدولة بمعزل عن أجهزة إنفاذ القانون في وقت تعطل النظام القضائي”.
وتابعت “كانت أقسام الشرطة غير فاعلة، وبالتالي فإن قوات الحزام الأمني التي أنشأتها الإمارات هي التي تولت العمل الأمني داخل محافظة عدن، وهم الذين قاموا فيما بعد بعمليات التوغل والاعتقالات والمداهمة “.
عندما أصبح معروفاً للمواطنين أنها تحقق في عمليات الاختفاء التي يتعرض لها المواطنون، تلقت الصراري ما بين 10 إلى 20 شكوى يومياً حول مداهمات وعمليات خطف، في البداية، كانت تلجأ إلى الشرطة الرسمية وأنظمة المحاكم للتحقيق في هذه الشكاوى، لكنها سرعان ما استنتجت أن “هناك قوات غير قوات الأمن الرسمية كانت تنفذ هذه الاعتقالات”، على حد قولها.
لذلك بدأت هي وزملاؤها في تدوين إفادات أهالي المختفين وجمعوا تفاصيل مثل الأسلحة التي تحملها قوات الأمن والعبارات المدونة على زيهم، وعلموا أن المداهمات كانت منظمة وكانت تحدث خارج عدن، في سلسلة من المناطق التي تم فيها صد تمرد الحوثيين، مع الوقت، أصبحت التقارير كثيرة جدًا لدرجة أنها أصبحت قاعدة بيانات ضخمة.
قالت الصراري: “لم يكن هناك جهة رسمية لتلقي هذه البلاغات، لذلك لجأت العائلات إلينا”، مشيرة إلى أن أمهات المختفين فيما بعد شكلن “جمعية أمهات المختطفين”، وهي مجموعة مجتمع مدني يمنية تشرف عليها النساء من عائلات المختفين قسرياً.
تم اتهام المختفين، بمن فيهم العديد ممن رفضوا هجوم الحوثيين في الجنوب وتدخل التحالف، بالانضمام إلى جماعات إرهابية، مثل تنظيم الدولة والقاعدة، وسُجنوا لأشهر في أكثر من مكان من مراكز الاحتجاز غير الرسمية.
تمكنت الصراري من تحديد موقع العديد من هذه السجون ومقابلة الرجال الذين تم احتجازهم وإساءة معاملتهم هناك.
في إحدى المرات، تحدثت الصراري مع رجل أطلق سراحه بعد اعتقاله مع شقيقه، وفي منزله، طلب من والدته وشقيقته مغادرة الغرفة قبل أن يخبر الصراري أن قوات الأمن وضعت رأس شقيقه تحت الماء وأنه متأكد من أن شقيقه لم ينج.
لطالما دعا المدافعون عن حقوق الإنسان إلى عملية مستقلة لتوثيق الانتهاكات البشعة والمنهجية وجرائم الحرب التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع في اليمن.
هذا الشهر، دعت أكثر من 75 مجموعة من منظمات المجتمع المدني الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إنشاء آلية دولية جديدة للمساءلة في اليمن، بعد أن قالت مجموعة من الخبراء كلفتها الأمم المتحدة بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد إن ولايتها انتهت وسط ضغوط سياسية من السعودية والإمارات، كما دعا منتقدو التحالف العربي إلى إجراء تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
قالت جينيفر جيبسون، محامية تقود مشروع الإعدام خارج نطاق القضاء في مجموعة ريبريف التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها: “في مرحلة ما، يجب أن يكون هناك اعتراف بما حدث في اليمن من جميع الأطراف، وأي نوع من آليات المساءلة في اليمن بعد الصراع يجب أن يشمل الانتهاكات التي ارتكبت تحت مظلة مكافحة الإرهاب”.
وأضافت “هذا هو السبب في أن تحقيقات هدى مهمة للغاية، بسبب ما تمكنت من توثيقه في الوقت الفعلي والأدلة التي تمكنت من جمعها… هذا الدليل لا يختفي “.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا