العدسة – منذر العلي:

“يقتل القتيل ويمشي في جنازته”.. مثل شعبي ربما يتبادر إلى الأذهان فور قراءة خبر يتحدث عن زيارة الزعيمة البورمية “أون سان سو تشي” إلى ولاية “راخين” التي شهدت تطهيرًا عرقيًّا لمسلمي الروهينجا، وفر منها منذ نهاية أغسطس الماضي أكثر من 600 ألف مسلم إلى بنجلاديش المجاورة.

وتعد هذه الزيارة هي الأولى التي تزور فيها “سو تشي” ولاية راخين منذ بدء النزاع، حيث اعتبرت الأمم المتحدة أن المسلمين فيها تعرضوا لتطهير عرقي.

الناشطة الحقوقية التي دفعت ثمن معارضتها للحكم العسكري وناضلت حتى حصلت على جائزة نوبل للسلام، أصبحت مشاركة بالصمت تارة، وبالنفي والتبرير تارة أخرى في واحدة من أبشع جرائم التطهير العرقي التي يشهدها العالم.

ليست وحدها، لكن هناك هذا الراهب البوذي “أشين ويراثو” الذي يفترض أنه يتبنى قيم ومبادئ البوذية، التي يطلق عليها “ديانة التسامح والمحبة”، لكنه ليس إلا مجرد قاتل عنصري وداعية إبادة، يسلط حقده الأعمى على الإسلام والمسلمين.

من نوبل إلى التطهير العرقي

التطهير العرقي الذي يرتكبه جيش وشرطة بورما والبوذيون تصاعدت حدته أواخر أغسطس أوائل سبتمبر الجاري، إلى أن دُشنت حملة شعبية وأخرى من الحاصلين على جائزة نوبل للمطالبة بسحب الجائزة من رئيسة وزراء بورما التي حصلت عليها عام 1991، لما قيل إنه “صمتها” عن القمع والإبادة التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا.

في خضم حملة الإبادة نفت “سو تشي” ما وثقته تقارير حقوقية ورصدته الأمم المتحدة، وقالت في تصريحات متلفزة: “هناك تضليل إعلامي فيما يخص تلك الواقعة، فمن حقنا الحفاظ على أمن بلادنا ضد الإرهاب، كما يتوجب علينا حماية جيراننا من الإرهاب المحتمل”.

هذا الصمت كان له أكثر من سبب لدى المحللين؛ في مقدمتها أنها عمليًّا تدين بالبوذية وبالتالي تعتبر نفسها وكأنها تصطف بجانب بني جلدتها، فضلًا عن تصريح سابق لها تقول فيها إنها لا تعرف حقًّا إن كان الروهينجا بورميون أم لا.

من الناحية المعنوية وحصولها على جائزة نوبل للسلام وما تمثله من رمز للنضال من أجل الحرية، فإنها تتعرض لموجة انتقادات غير مسبوقة وتجد حرجًا بالغًا في مواجهتها، لكنها تصمت أيضًا، بشكل يؤكد أنها ليست صامتة على الجرائم فحسب، بل مشاركة فيها وقائدة لها.

كثيرون يذهبون إلى أن هامش المناورة بالنسبة لها في رئاسة الحكومة ضد الجيش محدودة للغاية، وهي بالتالي تحاول الحفاظ على التوازن، بحيث لا يمكنها الدخول في صراع مع الجيش الذي يقود عمليات التطهير ضد مسلمي الروهينجا.

وفي هذا السياق نقلت تقارير إعلامية عن مصادر دبلوماسية، أن “سو تشي” أبرمت اتفاقًا مع جنرالات الجيش مضمونه التخلي عن ملف الروهينجا وعدم التطرق له، مقابل حرية التصرف لتنفيذ إصلاحات سياسية، وربما خوفًا من اتهامها بإدارة ظهرها للشعب الذي يدين 90 % منه بالبوذية.

الصدفة تقود للعنصرية!

“بينما وهو في سن الـ22، ولم يمض على رهبنته بعدُ 5 سنوات، وقع تحت يده بالصدفة كتاب تراثي قديم، مجهول المؤلف، بعنوان (الخوف من اختفاء العرق البورمي)، ومنه اقتبس أفكاره المغالية التي تطالب بتطهير بورما من (الدخلاء) المسلمين، الذين يطلق عليهم تسمية (كالار) العنصرية”.

هكذا وصف السينمائي السويسري الشهير “باربيت شرودر” الراهب البوذي في فيلمه الوثائقي “w المبجل” المعروض يونيو الماضي، والذي اختتم به “ثلاثية الشر” عن طواغيت عاثوا في الأرض فسادًا.

“لحماية نقاء العرق البورمي”، أطلق “ويراثو” أو “W” كما يطلق عليه الفيلم حملة تنادي بمقاطعة المتاجر التي يمتلكها مسلمون، مجاهرًا بأن الهدف هو “جعل الكالار في وضعية لا يجدون فيها مصدر رزق ولا مكاناً آمناً يحتمون به، حتى يضطروا لمغادرة البلاد”.

لكن تلك الحملة “السلمية” تطورت إلى مواجهات دامية تسببت في مقتل 11 مسلمًا في أكتوبر 2003، ما أدى الى اعتقاله والحكم عليه بالسجن 25 سنة.

لم يكن السجن له تهذيبًا وإصلاحًا، بل ساهمت 9 سنوات في تأليه العنصرية ضد المسلمين في نفسه، ومن المعتقل، أسهم في تفجير “ثورة الزعفران”، التي هزت أركان النظام العسكري في بورما، عام 2007.

وبعد تنحي العسكر عام 2012، أُطلق سراحه ضمن العفو العام الذي صدر بحق مساجين الرأي، إثر وصول حزب صاحبة نوبل للسلام، ورئيسة الوزراء الحالية “أون سان سو تشي” إلى الحكم.

ومن خلال الجمعية التي أسسها فور خروجه من السجن باسم “ما – با – تا” أو “جمعية الدفاع عن نقاء العرق والدين”، ارتكب خلال الأعوام الخمسة الماضية مجازر وأعمال إبادة ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الروهينجا.

عالم متواطئ وشعوب مُغيبة

ولعل الشاهد الأبرز عند محاولة البحث فيما تفرزه تلك الحالة من دلالات، يقود إلى التساؤل بشأن صمت المجتمع الدولي عن التحرك لنجدة الروهينجا، رغم أن هيئات الأمم المتحدة رصدت ووثقت ما يرتكبه البوذيون من جرائم شنعاء.

يبدو أنه كما فُسر صمت رئيسة وزراء بورما عن الجرائم بأنه مشاركة فيها، لا يبتعد الأمر كثيرًا عن ذلك عند محاولة تفسير موقف المجتمع الدولي، بقواه الكبرى وهيئاته الدولية.

هذا المجتمع الذي تحرك سريعًا لإنقاذ الطائفة الأيزيدية في العراق ومن قبل في غزوه لإسقاط نظام صدام حسين، وبعدها في ليبيا عام 2011، وغيرها لكنه يكتفي حتى الآن ببيانات الشجب والاستنكار.

المجتمع الدولي متهم أيضًا بانتهاج سياسة الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، وليس أبلغ من التعبير عن ذلك أكثر من كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في معرض حديثه عن الإرهاب البوذي بحق مسلمي الروهينجا.

أردوغان قال: “هل سمعتم إلى اليوم بإرهاب مسيحي أو إرهاب يهودي أو بوذي أو ملحد؟.. لا يمكن أن تسمعوا، لأنه إذا كان الفاعل مسلمًا يلصَق الفعل بمعتقده، وإذا لم يكن يتم تجاهُل الموضوع.. هذا الموقف جزء من إسلاموفوبيا عالمية، وهو نتاج لجهود ربط الإرهاب بالإسلام في الدول الغربية وعلى المستوى الدولي”.

وخلال المؤتمر الدولي للأزهر حول الحرية والمواطنة، فبراير الماضي، قال شيخ الأزهر أحمد الطيب إن “التطرف المسيحي واليهودي، مرّا بردًا وسلامًا على الغرب، دون أن تدنس صورة هذين الدينين الإلهيين، وإذا بشقيقهما الثالث يحبس وحده في قفص الاتهام، ويتم إدانته وتشويه صورته حتى هذه اللحظة.. لقد مرت بسلام أبشع صور العنف الديني المسيحي واليهودي في فصل تام بين الدين والإرهاب”.

وتابع:” لا تخطئ العين الكيل بمكيالين، بين المحاكمة العالمية للإسلام من ناحية، وبين المسيحية واليهودية من ناحية أخرى، رغم اشتراك الكل في عريضة اتهام واحدة، وهي العنف والإرهاب الديني”.

أما العالمَين العربي والإسلامي فيبدوان منكفئان على أزماتهما الداخلية، رسميًّا: لا صوت يعلو فوق صوت الأزمة الخليجية، فضلًا عن الإرهاب والأزمات السياسية والاقتصادية التي تضرب أقطارًا عدة، إلى حد شغلها عن نصرة المستضعفين في بورما.

شعبيًّا، فقد غُيب الإسلاميون الذين كانوا يلعبون الدور الأبرز في تسليط الضوء وتعريف الشعوب بما تعانيه الأمة من أزمات، وأكبر مثال على ذلك مذابح البوسنة والهرسك، والقضية الفلسطينية.

وربما تكشف جولة عشوائية في أحد شوارع مصر أو غيرها من الدول العربية عن جهل شعبي تام بأزمة الروهينجا، بل بمعرفة هذه الطائفة من المسلمين بالأساس.