العدسة: محمد العربي

في واحدة من أقوى كلماته ضد توجهات رئيس الإنقلاب عبد الفتاح السيسي، وضع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، خطا فاصلا حول التشكيك في السنة النبوية، والدعوات المتتالية للسيسي من أجل تجديد الخطاب الديني، مؤكدا خلال كلمته في احتفال وزارة الأوقاف بمناسبة المولد النبوي، أن التشكيك في كتب السنة وحديث الرسول، إنما الهدف منه هدم الإسلام وضرب أركانه، باعتبار أن السنة النبوية مفسرة وموضحة ومكملة للقرآن الكريم.

شيخ الأزهر الذي توسطت كلمته كلمتين، الأولى لغريمه وزير الأوقاف، والثانية لرئيسه رئيس الإنقلاب، كان واضحا في أن الدعوات بتجنيب السنة، إنما ظهرت لأهداف علمانية استعمارية بالهند من أجل القضاء على فكرة مقاومة المحتل الإنجليزي، ثم تبني هذه الدعوات دعاة التغريب في الدول العربية.

ولم يكتف شيخ الأزهر بذلك، بل بعث برسائل مبطنة لرئيس الإنقلاب ومن يدور في فلكه حول موضوع تجديد الخطاب الديني، بأن علم الحديث يمثل مدرسة في الدقة والتقييم والبحث العلمي، أشاد بها كبار المستشرقين الغربيين، وبالتالي فالتشكيك فيها، يرمي لهدم السنة وهو ما لا يوافق عليه الأزهر الشريف الذي ينظر للسنة النبوية باعتبارها مكملا للقرآن الكريم وأحد مصادر التشريع التي اتفق عليها العلماء.

السيسي يرجع للخلف

وطبقا للذين تابعوا الحفل فإن السيسي بات وكأنه مذهولا من كلمة شيخ الأزهر، وهو ما ظهر في ارتجاله لكلمته، التي ألمح فيها لوجود غضب بين علماء الأزهر، بسبب دعوته لتجديد الخطاب الديني وحسب قوله “أنا عارف انكم زعلانين من كلامي .. بس أنا لا اقصد الأزهر أو الأوقاف وإنما أقصد جميع المصريين”، وهي الكلمات التي اعتبرها المتابعون تراجعا من السيسي في قضية كان يعتبرها أحد أهم الملفات التي يعمل على تحقيق إنجاز فيها.

ويرى المتابعون أن السيسي لم يجد مفرا من تراجعه إلا بتحميل عموم المسلمين التطبيق الخاطئ للإسلام، وخاصة في مجالات الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، حيث أضاف قائلا: “أرى العجب في إدارة الدولة”، دون أن يوضح أشكال هذا العجب أو أسبابه أو دور مؤسسات الدولة الرقابية والتشريعية والتعليمية والثقافية والإعلامية فيه.

وطبقا للمتابعين فإن اللغة السابقة للسيسي مع شيخ الأزهر والتي قال له في إحداها على الهواء مباشرة “تعَّـبْـتِني… يا مولانا“، والأخرى التي انتقد فيها الأزهر على موقفه المتشدد من الطلاق الشفهي، أو موقفه الغاضب من رفض الأزهر تكفير المنضمين لتنظيم داعش وغيره من التنظيمات التي تمارس العنف ضد الدولة المصرية، تغيرت بشكل كبير في الخطاب الأخير، حتى لو ختمه السيسي بقوله “أن الجميع سوف يحاسب أمام الله يوم القيامة على كل ما قدم”.

لماذا التراجع

وطبقا للعديد من الكتابات التي تناولت العلاقة بين شيخ الأزهر والسيسي، فإن الأخير حاول استخدام ورقة وزير الأوقاف لتقليم أظافر الشيخ الطيب، ولكن الأخير كشَّر عن أنيابه في أكثر من مناسبة، مستعينا بهيئة كبار العلماء من جهة، ومجمع البحوث الإسلامية من جهة أخرى، إلا أن الأهم من ذلك هو استغلاله لمكانة الأزهر في قلوب المصريين، واعتبرها سلاحا هاما، في مواجهة موقف السيسي الصدامي مع الأزهر.

وتشير دراسة مفصلة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن فكرة الصدام بين الأزهر والدولة بمعناه الواسع ليست مطروحة، فعلى أرض الواقع الأزهر “كمؤسسة دينية علمية” يستمد قوته من السلطة نفسها التي تستدعى الأزهر للوقوف بجانبها في مواجهة التيارات الدينية المعارضة سواء الجهادية والسلفية ومؤخرا الإخوانية، هو ما يكسب الأزهر قوه فعليه (لا روحية فحسب) ويكسب شيخها وضعا خاصا في المشهد السياسي، وتجاهل السلطة للأزهر أو تحييده سيجعل شيخ الأزهر عملياً لا يفرق كثيرا عن رئيس أي مؤسسة غير دينية.

وطبقا للدراسة فإن أبرز محطات الخلاف بين الدولة والأزهر كانت دوما تنحصر في ما يراه الأزهر تهديدا مباشرا لوجوده والدور الذي يرى نفسه مخولا له، مثل خلافه مع السادات حول قانون الأحوال الشخصية الذي عرف وقتها بقانون “جيهان السادات”، وخلافه مع مبارك حول مؤتمر السكان الذي كان يدعو للحريات الشخصية التي تخالف الشريعة الإسلامية.

وتضيف الدراسة أن الأزهر وافق أن يكون جزء من تحالف 30 يونيو، وبارك الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وحين حدثت مذبحة رابعة أصدر بيان شديد الدبلوماسية ترحم فيه على كل الأرواح التي زهقت (من الطرفين) ولم يسميها مذبحة ولم يدين أي طرف بشكل واضح.

منافع متبادلة

وتشير الدراسة نفسها لقضية هامة في تكوين مؤسسة الأزهر، مؤكدة أن اختزال مواقف “الأزهر” في شخص “الإمام الطيب” هو اختزال مخل يؤثر على تقييمنا للموقف، فشيخ الأزهر رغم مكانته إلا أنه ليس الآمر الناهي داخل المؤسسة الدينية العتيقة منفردا، فهناك كيانين يمكن القول أنهم مفاصل المؤسسة اللذان دونهما لن يستطيع الإمام الأكبر التحرك، وهما مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء.

فالجهتان تمثلان مراكز القوى داخل الأزهر، ومع أي حديث عن صدام أو حتى خلاف بين “السيسي والطيب” يجب ألا يتم بمعزل عن تلك المراكز خصوصا هيئة كبار العلماء، حتى البيانات الصادرة والتي تحمل توقيع شيخ الأزهر، فهي لا تعبر عن شيخ الأزهر نفسه لكنها تعكس موقف كبار العلماء، لذا فالطيب شخصيا ليس هو بطل مشهد الصدام المزعوم كما يظن الكثيرون.

وتنتهي الدراسة إلى أن العلاقة بين الدولة والأزهر هي علاقة منفعة متبادلة، فالدولة تدرك جيدا احتياجها له معنويا في مواجه التيارات الدينية الأخرى، باعتبار أن وجوده في الصورة دوما يضفي صبغة من “الشرعية” على المشهد، وينفي أي اتهام بالعلمانية أو محاربة الدين حال سحقها لقوى الإسلام السياسي المناوئ.

حرب الأكاديميات

ويلفت المتابعون النظر إلى أنه رغم تراجع لغة خطاب السيسي الصدامية مع شيخ الأزهر، إلا أنه رمى بما يمكن أن نسميه قنبلة دخان لتعكير صفو الأجواء، أو ما يشبه برمي حجر في مياه الشيخ الواثقة، عندما تحدث عن أكاديمية الدعاة التي أشار إليها وزير الأوقاف في كلمته واعتبرها رأس الحربة في تنفيذ توجهات السيسي فيما يتعلق بالخطاب الديني، ولذلك لم يكن غريبا أن يتحدث عنها السيسي موضحا أهمية أن يتم التواصل مع دارسي هذه الأكاديمية للاطلاع على ما تقوم به الدولة وما تريده منهم، على الرغم من أنها لم ترى النور بعد.

وطبقا للمحللين فإن حديث السيسي عن الأكاديمية المزعومة، كان بمثابة ضربة موجهة لشيخ الأزهر الذي أنشأ بالفعل “أكاديمية الأزهر الشريف لتأهيل وتدريب الأئمة والدعاة والوعاظ وباحثي وأمناء الفتوى” والتي صدر القرار الجمهوري رقم 434 لسنة 2017 بإنشائها في أغسطس 2017، تحت رعاية رئاسة الجمهورية، ومن المقرر أن تبدأ أولى دوراتها الفعلية في يناير المقبل.

وقد أصدر السيسي في مايو الماضي، باعتباره رئيس الأكاديمية، قرار بتشكيل مجلس أمنائها لمدة ثلاث سنوات برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية ممثلين عن رئاسة الجمهورية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، وزارة المالية، والمجلس الأعلى للجامعات، وعدد من الشخصيات ذوي الخبرة.

وطبقا للقرار الجمهوري فإن الأكاديمية تمارس عملها بالتعاون والتنسيق مع وزارة الأوقاف ودار الإفتاء والجهات المعنية، لتأهيل وتدريب العاملين في مجالات الوعظ، والإمامة والخطابة، والدعوة، وأمانة الفتوى، من خريجي الكليات الشرعية والعربية بالأزهر الشريف.

ويرى المتابعون أن إعلان وزير الأوقاف عن أكاديمية أخرى تقوم بنفس الدور، تتبع الوزارة وسيتم إنشاؤها بمدينة السادس من أكتوبر، لتأهيل وتدريب الأئمة وإعداد المدربين من داخل مصر وخارجها، إنما الهدف منه محاولة سحب البساط من تحت أقدام شيخ الأزهر ونقل صراع الخطاب الديني لملعب آخر تستطيع الدولة من خلاله اختراق السياج الذي فرضه الأزهر حول هذه القضية، خاصة وأن وزير الأوقاف لم يدخر جهدا في إعلان دعمه الغير محدود لتوجهات السيسي فيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني، ليقدم نفسه من خلاله باعتباره الأحق بمنصب المشيخة.