قد لا تقف صفقة الصواريخ الدفاعية الروسية “إس 400” التي وصلت إلى تركيا عند حيز التصريحات، فمن الممكن أن تسبب أزمات لأنقرة على عدة أصعدة، لعل أهمها تتعلق بدفع تركيا للخروج من حلف “الناتو” لتتحول تماماً إلى الطرف الروسي.
وعلى الرغم من ذلك فإن التصريحات التركية المتتالية تدل على أن أنقرة لا تفضل إثارة أية مشاكل مع الولايات المتحدة قوة “الناتو” الأبرز، ولا مع جيرانها في الاتحاد الأوروبي، محاولة إمساك العصا من المنتصف لتحقيق التوازن الاستراتيجي في علاقاتها وتموضعاتها الدولية.
وفي اليوم الأول لاستلام تركيا أولى قطع “إس 400″، أعرب حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن قلقه بشأن هذه الأنباء، وقال مسؤول في الحلف لوكالة الصحافة الفرنسية: “نشعر بالقلق إزاء التداعيات المحتملة لقرار تركيا حيازة منظومة إس 400”.
القلق من الحليف
وتعد تركيا من الدول ذات الأهمية في حلف الناتو، وثاني قوة عسكرية فيه بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وفق تعداد الجيش والتسليح والموقع الاستراتيجي (وفق المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية للعام 2016)، وقد انضمت إلى الحلف منذ بدايات تأسيسه عام 1952.
وذكرت صحيفة “حريات دايلي نيوز” التركية، نقلاً عن خلدون يلشانكايا، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة “توب”، في أبريل الماضي، قوله: إنّ “تركيا أكثر نشاطاً من معظم أعضاء الناتو، عندما ننظر إلى مساهمتنا في الحلف فلدينا الكثير لنطلبه، وبعبارة أخرى فإن الناتو على الأرجح مدين لنا أكثر مما ندين له”.
وأضاف: “لا يمكننا إهمال مساهمة الناتو في المكانة العالية الحالية للجيش التركي ولقد تم تصدير هذا النوع من المعرفة العسكرية إلى دول من غير الناتو منذ عام 1993”.
من جانبه قال جيم تاونسند، الباحث في مركز الأمن الأمريكي الجديد ونائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشؤون أوروبا وحلف الناتو (في 13 يوليو الجاري): إنه “غالباً ما توجد خلافات سياسية داخل حلف الناتو، لكن الخلاف حول (إس 400) يدخل في مستوى مختلف، حيث إنها تضعف فعلياً القدرة العسكرية للتحالف”.
وأضاف المسؤول السابق، بحسب موقع “ديفينس نيوز”: “هذا شيء لا يمكنك التفاوض حوله؛ هذه مشكلة كبيرة، حيث يجب اتخاذ إجراء، فقد تواجه دول الناتو مشكلة سياسية فريدة من نوعها، بمعنى ماذا تفعل مع حليف الناتو الذي اتخذ إجراءات لإضعاف القدرة العسكرية للتحالف؟ كيف تتعامل مع ذلك؟”.
وبيّن أن “هناك حلاً محتملاً يقوم على أن تتسلم تركيا شحنات الصواريخ الروسية، وتبقي عليها في مخازنها، وفي أثناء ذلك تستأنف المفاوضات مع الولايات المتحدة، ما يؤدي في النهاية إلى أن يصبح اتفاق “إس 400” كأنه لم يكن.
تعزيز قوة الناتو
ويظهر أنّ هناك تضخيماً في الانتقادات القادمة من الحلف والولايات المتحدة التي تطال تركيا بهذا الخصوص، فأنقرة ليست فقط عضواً قديماً في الناتو، بل شاركت في أغلب عمليات الحلف، وكان لها دور بارز في نجاح هذه المهام.
يأتي ذلك إضافة إلى التطمينات التي قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، على هامش قمة العشرين الأخيرة في اليابان، بأنه “لن يفرض عقوبات على تركيا بسبب الصفقة”.
وبحسب ما نقل تلفزيون “خبر ترك” عن الرئيس التركي (يوم الأحد 14 يوليو الجاري) فقد رأى أن ترامب “لديه سلطة الإحجام عن أو تأجيل (تطبيق) قانون مجابهة خصوم الولايات المتحدة بالعقوبات”، في إشارة إلى العقوبات الأمريكية الرامية إلى منع الدول من شراء عتاد عسكري من روسيا.
وأردف أردوغان: “ولما كان هذا هو الوضع، فإن على ترامب إيجاد حل وسط”، مضيفاً: “الآن لا أعتقد أن ترامب يتفق في الرأي مع من هم دونه (من المسؤولين الأمريكيين)، وقد قال ذلك أمام كل وسائل الإعلام العالمية”.
ورأى الرئيس التركي أنّ امتلاك تركيا منظومة “إس 400” يعزز من قوة حلف شمال الأطلسي، معتبراً أنه ينبغي على “الناتو أن يكون سعيداً لهذا”.
هل تنسحب تركيا من الناتو؟
وبلا شك فتركيا اليوم في موقف صعب سياسياً واقتصادياً، خصوصاً إذا أُقِرَّ فرض عقوبات عليها من عدة جوانب؛ لا سيما من أمريكا، أو من أعضاء آخرين في حلف الناتو، في ظل تأكيدات من قبل وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة الخارجية والكونغرس أنّ موقفهم لن يتغير وسيكون هناك عقوبات على أنقرة، كما سيتم إخراجها من برنامج التصنيع المشترك لمقاتلات “إف 35”.
وقالت الباحثة المختصة بالشأن التركي، أماني السنوار: “لا أتفق مع التحليلات التي تقول باحتمالية انسحاب تركيا من حلف شمال الأطلسي على خلفية اقتناء منظومة (إس 400) الروسية، هذا الخيار غير وارد، فمن حيث المبدأ علاقات تركيا مع الحلف، وتاريخ هذه العلاقات ووزنها أكبر من أن يقطعها الخلاف الأخير”.
وأضافت السنوار، الباحثة في جامعة “إسطنبول زعيم” التركية، في تصريح لـ”الخليج أونلاين”، أنّ “إدارة الحلف، متمثلة بأمينه العام ينس ستولتنبرغ، عبرت عن استيائها من الصفقة التركية-الروسية لكنها لم تلوّح بعقوبات تمس بمستقبل التعاون مع تركيا، لا سيما أن دولاً أخرى أقل أهمية في الحلف، مثل سلوفاكيا وبلغاريا واليونان، حاصلة فعلاً على منظومة الدفاع الروسية (إس 300) منذ سنوات”.
وأوضحت أنه “من الناحية الاستراتيجية بنت تركيا علاقاتها منذ عقود بانحياز مستدام للمعسكر الأطلسي أو الغربي متمثلاً بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد شهدت هذه العلاقات بعض الانتكاسات والتراجعات في عدد من المحطات التاريخية، بعض هذه التراجعات نشهدها اليوم، وهي ما دفعت تركيا نحو الجنوح إلى الفاعل الروسي لتعديل كفة الميزان”.
وتعتقد “السنوار” أن ذلك التقارب مع روسيا هو “جنوح تكتيكي وليس استراتيجياً، فرضته عوامل ظرفية منها: التعنت في تسليم منظومة الدفاع الأمريكية (باتريوت)، والخلاف حول ملفات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وضرورات جيوسياسية فرضتها الأزمة السورية على الحدود، وتسعى تركيا من خلال هذا التوازن إلى تعويض ما تستطيع من خسائر خلقها البرود في العلاقات مع الولايات المتحدة”.
خيارات معدومة
ووصل الأمر إلى هذا الحد من التعقيد السياسي بسبب عدم ترك أي خيارات لأنقرة بما يخص أمنها القومي؛ فقد سحبت واشنطن عدداً من بطاريات صواريخ باتريوت من المناطق الجنوبية لتركيا عام 2015، في ظل وجود تهديدات بضربات صاروخية قادمة من سوريا.
ويرى مراقبون أنّ رفض الولايات المتحدة بيع صواريخ “باتريوت” لتركيا دفع الأخيرة للبحث عن بديل يضمن أمن حدودها.
وقالت “السنوار” لـ”الخليج أونلاين”: إنه “بالنظر إلى إدارة المسؤولين الأتراك لملف “إس 400″ يبدو أن هناك تصميماً على إتمام هذه الصفقة؛ لنفي الحرج مع الشريك الروسي، ولتحقيق غايات الدفاع التي أصبحت أكثر إلحاحاً في ظل ملف الخلاف مع اليونان على حقوق التنقيب عن الغاز والنفط شرق المتوسط، وفي نفس الوقت يظهر الأتراك مرونة ورغبة واضحة في تجنب أو على الأقل تخفيف واحتواء أية عقوبات أمريكية، لا سيما تحت قانون (كاتسا) الذي أقرّه الكونغرس لمعاقبة من يتعاون مع خصوم الولايات المتحدة”.
وأشارت إلى أن المسؤولين الأتراك يراهنون اليوم على أن تعمل المؤسسات السيادية الأمريكية على تخفيف وطأة تطبيق هذا القانون الذي يحمل في طياته الكثير من التفاصيل غير المحسومة والقابلة للتأويل.
بدوره، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، يوم الجمعة (12 يوليو): “مفاوضاتنا بشأن منظومة باتريوت الأمريكية ما زالت مستمرة، ونقيم العروض الخاصة بها”.
وشدد أردوغان، يوم الأحد (14 يوليو)، على أنّ شراء المنظومة لم يكن “خياراً بل ضرورة” للأمن القومي، مضيفاً- وفق ما نقلت جريدة “صباح” اليومية- أنّ “اتفاق منظومة إس 400 هو حالياً الاتفاق الأهم في تاريخنا”، مؤكداً أنّ بلاده ستستلم كامل المنظومة بحلول أبريل 2020، وأنّ الاتفاقية تتضمن الإنتاج المشترك مع روسيا.
وأوضح أنّ “الجيش التركي سيكون المتحكم الفعلي بشكل كامل بالمنظومة الدفاعية الروسية”.
وفي 12 يوليو، أعلنت وزارة الدفاع التركية وصول أول مجموعة من أجزاء منظومة “إس-400” الروسية إلى أنقرة، لتتواصل بعدها دفعات التسليم التي وصلت إلى تسع.
وتعد منظومة “إس 400” واحدة من أكثر منظومات الدفاع الجوي تطوراً بالعالم حالياً، وهي من إنتاج شركة “ألماز-أنتي”، المملوكة للحكومة الروسية.
ودخلت المنظومة الخدمة في الجيش الروسي عام 2007، وتعتبر ترقية لمنظومة الدفاع الجوي “إس-300” التي طُورت في تسعينيات القرن الماضي.
اضف تعليقا