أحمد حسين

المتابع للشأن السوداني منذ اندلاع الاحتجاجات على الظروف المعيشية منذ منتصف ديسمبر الماضي، يتأكد أن حدة تلك الاحتجاجات تراجعت بشكل كبير، فبعد أن كانت تعم كبريات المدن اقتصرت على بعضها وأصبحت تُنظم أسبوعيا بينما كانت تخرج بشكل شبه يومي.

فما هي الأسباب المؤدية لهذا التراجع، وهل يعبر عن نجاح السلطات في وأد الحركة الاحتجاجية رغم اتخاذها أبعادا سياسية وصلت لحد المطالبة بإسقاط النظام؟.

من الدفاع للهجوم!

أحدث إرهاصات هذا التوجه تمثلت في تحول نظام الرئيس عمر البشير من الدفاع المفترض عن وجوده وقوته واستمراره، إلى الهجوم على بعض أحزاب المعارضة التي قادت الحراك ضده.

الحكومة السودانية، قالت في بيان صدر عن وزارة الإعلام الخميس، إنها ستتخذ إجراءات قانونية للرد على مجموعة أحزاب معارضة، دعت إلى “تغيير النظام بالقوة، ونادت بالعنف والإرهاب الفكري والسياسي”.

وكان “تجمع المهنيين السودانيين” وأحزاب معارضة ومنظمات مدنية سودانية، أعلنت في مؤتمر صحفي الأربعاء، اتفاقها على “إعلان الحرية والتغيير”، و”تمسكها بإسقاط النظام وتصفية مؤسساته”.

والمؤتمر هو الأول لقوى “إعلان التغيير”، التي تضم “تجمع المهنيين” وتحالفات المعارضة، أبرزها “نداء السودان”، و”الإجماع الوطني”، و”التجمع الاتحادي المعارض”.

البشير تجاهل الحركة الاحتجاجية وتحدث أمام قوات الدفاع الشعبي بالعاصمة الخرطوم، وكأن الأوضاع مستقرة للغاية ولا يوجد ما يعكر صفوها، متحدثا عن مخططه لمواجهة حركات التمرد جنوب وغربي البلاد.

 

وقال الرئيس السوداني إن 2019 هو عام إسكات البندقية في كل أنحاء البلاد وإكمال السلام، مشيرا إلى دور كتائب الدفاع الشعبي التي أُنشئت بعد تولي البشير السلطة كقوة موازية للجيش، في هذا الإعلان.

ورغم أنه لم يصرح بأي شيء عن أزمة الاحتجاجات، إلا أنه ألمح إلى جهود سلطته في إنهاء أسباب التظاهر، حيث قال: “قوات الدفاع الشعبي مؤسسة جهادية وتربوية وخدمية ودعوية، وكانت كتائب جهادية أيام الحرب، لكنها الآن هي كتائب إسناد للتعليم والصحة وتقديم الخدمات”.

وتقاتل القوات الحكومية المتمردين في إقليم دارفور غربي البلاد منذ 2003، كما تشهد ولايتا “النيل الأزرق (جنوب شرق)، وكردفان (جنوب)، قتالا بين القوات الحكومية والحركة الشعبية.

البشير بدا بتلك المواقف ليس مروجا فقط لاستقرار البلاد، بل ساحبا زمام المبادرة من المعارضة، وموجها سهام الهجوم ضدها، إلى حد التهديد بإجراءات قانونية قد تمتد لمحاكمات بحق بعض قادتها.

لماذا التراجع؟

ولعل محاولة الإجابة على تساؤل: لماذا تراجعت حدة الحركة الاحتجاجية في السودان خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة؟، تصطدم بالعديد من الأسباب التي يمكن قراءتها في هذا السياق.

في 19 يناير الماضي، أعلنت السلطات السودانية الإفراج عن جميع معتقلي الاحتجاجات، بقرار أصدره مدير جهاز الأمن “صلاح عبدالله قوش”.

ولم يذكر البيان أي تفاصيل عن عدد المعتقلين أو موعد إطلاق سراحهم، إلا أنه في أول يناير قدرت السلطات عدد الموقوفين في الاحتجاجات بـ 816، بينما قالت المعارضة إنهم تجاوزوا الألف.

وفي 10 فبراير أطلق جهاز الأمن، والمخابرات الوطني السوداني سراح 11 صحفيا، جرى اعتقالهم خلال الاحتجاجات، وذلك إنفاذا لقرار البشير وتعهدات السابقة.

(إطلاق سراح المتظاهرين خفف حدة الاحتجاجات)

هاتان الخطوتان ربما كان لهما نصيبا كبيرا في تهدئة الرأي العام السوداني الغاضب، ولعبتا دورا في انحسار الاحتجاجات، بينما كان الأمر سيشتعل أكثر لو لم يفرج عنهم أو حتى استمرت الاعتقالات.

وكان لافتا أيضا مع تصاعد الاحتجاجات انخفاض مقدار القوة التي تستخدمها السلطات لتفريقها، ولعل أعداد الضحايا تشهد على ذلك، حيث توقفت السلطات وكذلك المعارضة عن حصر أعداد الوفيات منذ أن وصل العدد إلى 30 حالة منتصف يناير الماضي.

وترافق مع هذا التراجع، إن صح التعبير، في استخدام القوة مع اعتراف حكومي بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية المشروعة للمتظاهرين، والإلماح فقط إلى قلة قليلة هي من تتورط في أعمال العنف والشغب.

(عنف الأمن بدأ متوحشا وتراجع تدريجيا)

ليس هذا فحسب، بل اعترفت الحكومة بمشروعية المطالب السياسية المتمثلة في إسقاط نظام البشير، حيث وصف رئيس الوزراء السوداني معتز موسى الحركة الاحتجاجية التي تشهدها بلاده بأنها “صوت محترم” له “مطالب مشروعة”، لكنه أكد في الوقت ذاته أن السبيل الوحيد للتغيير هو عبر الانتخابات.

وعلى لسان رئيس جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش، اعترفت السلطة صراحة بمسؤوليتها عن إراقة بعض دماء المتظاهرين، حين قال إن “ثمة تجاوزات ربما حدثت، وفي الأيام الأولى فقط، في كل من ولايتي عطبرة والقضارف”، مشيرا إلى أن دور قوات الأمن فيما عدا ذلك كان مجرد الحراسة والتأمين.

ومن بين التحركات التي ربما ساهمت في تراجع حدة الاحتجاجات، تصريحات وزير العمل السوداني “بحر إدريس أبو قردة”، إن مجلس الوزراء أجاز في جلسته، خطة العام الجاري لتشغيل الشباب، والتي تتيح تشغيل أكثر من 160 ألف شاب وشابة خلال هذا العام.

هذه التصريحات تزامنت مع مؤشرات إيجابية للاقتصاد السوداني رغم الأزمة ورغم مؤشرات أخرى سلبية، حيث سجل معدل التضخم انخفاضا حادا وصل إلى 43% في يناير، مقارنة مع نحو 73% في ديسمبر.

وكان الارتفاع الكبير في التضخم، والنقص الحاد في العملات الأجنبية، ما أسفر عن تضاعف أسعار الأغذية وخاصة الخبز، المحرك الأبرز للاحتجاجات.

(نخبوية الحراك السوداني ربما دفعت قطاعات شعبية للعزوف)

ولعل ما يمكن أن نسميه النخبوية في قيادة الحراك السوادني ساهم بشكل أو بآخر في خفوت الاحتجاجات، حيث تصدر تجمع المهنيين قيادة وتوجيه الحراك في غالبية الفعاليات، بينما اقتصر الحراك الشعبي العفوي على بعضها، الأمر الذي أفقدها الاستمرارية اللازمة للتأثير.

ولعل نموذج ثورة 25 يناير 2011 في مصر وعدم وجود قيادة موحدة للثوار وعفوية التظاهر، بعيدا عما آلت إليه الثورة، غابت كلها عن الحراك السوادني وبالتالي فقد فرص النجاح وانصرفت قطاعات شعبية واسعة عن المشاركة.

يترافق مع ذلك تصاعد موجة المطالب وابتعادها كثيرا عن تلك المتعلقة بالحياة المعيشية، الأمر الذي ربما دفع كثيرون إلى العزوف عن الاستمرار في المشاركة تحت شعار: ليس هذا ما خرجنا من أجله.