العدسة – منصور عطية

لا تزال تداعيات خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، تلقي بظلالها الكثيفة على ملف المصالحة، وعلى القضية الفلسطينية برمتها، وسط غياب تام للوسيط المصري راعي الاتفاق الموقع بين حركتي فتح وحماس بالقاهرة، أكتوبر الماضي.

التصريحات التي اعتبرها كثيرون بمثابة رصاصة الرحمة التي أُطلقت على المصالحة، كانت هجومية ومتوترة إلى حد كبير، رغم أن الجميع كان يدرك أن اتفاق القاهرة يلفظ أنفاسه الأخيرة.

لبنان على خط الأزمة

الساعات الماضية شهدت تطورات متلاحقة لتصريحات “عباس”، كان أبرزها من خارج الأراضي الفلسطينية، حيث دخل لبنان على خط الأزمة بين السلطة وحماس عن طريق رئيس مجلس نوابه “نبيه بري”.

“عباس” أجرى مع الرجل اتصالا هاتفيا حول غزة، ونقلت “الجزيرة” عبر مراسلها، أن الرئيس الفلسطيني أكد لـ”نبيه بري” أنه لا ينوي اتخاذ أية إجراءات ضد حركة حماس، ثم عاود “بري” الاتصال بإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، وأبلغه بمضمون اتصاله بعباس.

المفارقة أن تعهد “عباس” يأتي بعد يوم واحد من التهديد الذي أطلقه خلال كلمة ألقاها باجتماع للجنتين؛ التنفيذية لمنظمة التحرير، والمركزية لحركة فتح، حين اتهم حركة حماس بالوقوف وراء محاولة اغتيال رئيس حكومة الوفاق رامي الحمدالله بقطاع غزة قبل أيام.

وقال: “بصفتي رئيسًا للشعب الفلسطيني، قررت اتخاذ الإجراءات الوطنية والقانونية والمالية كافة من أجل المحافظة على المشروع الوطني”، في إشارة لعقوبات سيفرضها قريبا على قطاع غزة، وهو ما حذرت منه حماس وباقي الفصائل الفلسطينية داخل غزة وخارجها.

مصر غائبة.. لماذا؟

اللافت – في حال التسليم بصحة الرواية المنقولة عن مراسل الجزيرة – أن تأتي تلك الخطوة التي تحاول رأب الصدع من جانب لبنان، البلد الصغير الذي تمزقه الخلافات الداخلية، والمقبل على انتخابات نيابية تشهد تجاذبات وصراعات سياسية وطائفية عدة.

كان الطبيعي حينها أن يكون هذا التدخل من نصيب مصر، راعية اتفاق المصالحة والأكثر مساسا وتأثيرا في الملف الفلسطيني تاريخيا وجغرافيا وسياسيا وأمنيا، إلا أن غياب القاهرة عن هذه الأزمة التي تضر باتفاق رعته يثير علامات الاستفهام.

الإجابة على تلك التساؤلات تشير إلى احتمالين؛ أولهما: أن مصر منشغلة للغاية بشأنها الداخلي، وهي تقترب من انتخابات رئاسية، رغم أنها محددة النتائج سلفا، غير أنها تأتي في وقت عصيب تمر به البلاد من حيث الأزمة الداخلية سياسيا وأمنيا واقتصاديا، والتجاذبات والمشاكل الإقليمية التي تعاني منها مثل أزمتي سد النهضة الإثيوبي والنزاع على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي.

هذا الانشغال يبدو من وجهة النظر تلك مؤقتا فقط، وربما كانت هناك اتصالات غير معلنة لتهدئة الأجواء وحث طرفي المصالحة على الانتظار لما بعد انتخابات الرئاسة.

يعضد من تلك الرؤية، أنه قبل أقل من شهر، وصل وفد أمني مصري إلى قطاع غزة لمتابعة تنفيذ اتفاق المصالحة بين حركتي حماس وفتح، بعد أيام من إجراء محادثات رفيعة المستوى بين وفد حماس ومسؤولين بالقاهرة.

في المقابل، نقلت تقارير إعلامية عن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية المصرية، أن بلاده “غاضبة” من الخطوات التي يتبعها “عباس” في ملف المصالحة وإبقائه العقوبات التي فرضها على قطاع غزة منذ أبريل الماضي.

المصدر أشار في تصريحاته التي تعود إلى ديسمبر الماضي، إلى تهديدات مصرية تلقاها “عباس” بسحب وساطتها من ملف المصالحة بشكل نهائي، احتجاجا على أن “عباس لم يقدم على أية خطوة جادة تجاه غزة، تدعم المصالحة والتحركات المصرية”.

وأضاف أن الاتفاق الموقع بالقاهرة في 12 أكتوبر الماضي، كان ينص صراحة على تمكين حكومة الوفاق من عملها في مؤسسات قطاع غزة، إلى جانب رفع كل العقوبات المالية والاقتصادية التي فرضها “عباس”.

ورغم وفاء حماس ببعض تعهداتها إلا أن “عباس” لم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، الأمر الذي يعزز من فرص تنامي الغضب المصري تجاهه، واتخاذ القاهرة قرارا بسحب يديها من الملف برمته.

عباس يتراجع.. وحماس تكشفه

بفرضية صحة ما نُقل عن “عباس” من عدم نيته اتخاذ إجراءات عقابية ضد حماس، فإن النتيجة المباشرة لذلك هي تراجعه عن التهديدات التي أطلقها قبل يومين، على نحو يؤشر لتدخلٍ ما، إقليمي أو دولي، معلن مثل لبنان، أو خفي كأطراف أخرى محتملة مثل مصر.

ورغم أن هذا التراجع لا يعدو كونه احتمالا، إلا أن فرص ترجيحه قائمة بالنظر إلى سجل الرجل في التراشق الإعلامي الحافل بتوجيه الاتهامات والكيد السياسي ضد حماس، على مدار السنوات التالية للحسم العسكري في غزة.

لكن الاتهامات هذه المرة مختلفة، لشدة قساوتها، والاتهام المباشر بتدبير محاولة اغتيال الحمدالله، فضلا عن أنها تأتي في ظل اتفاق مصالحة وقعه الطرفان، وسط أجواء إيجابية مشجعة، وعزم مصري على إنجاح الاتفاق ودخوله حيز التنفيذ.

على الجهة المقابلة، بدت حماس متأهبة لمحاولة كشف زيف ادعاءات “عباس”، حيث قالت في بيان لها الأربعاء، إنها تبحث عن مشتبه به رئيسي (نشرت صورته)، في الهجوم الذي استهدف موكب الحمدالله في غزة الأسبوع الماضي.

وأعلنت الحركة عن مكافأة قدرها 5 آلاف دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان المشتبه به، وأنشأت القوات التابعة لحماس نقاطًا أمنية في بعض شوارع غزة لتفتيش السيارات وأوراق الهوية، ضمن إجراءات مشددة في داخل القطاع وعلى الحدود والمعابر.

وبقدر اهتمام الحركة بالرد المباشر على تهديدات واتهامات “عباس” الواهية، إلا أن الرد العملي المستند إلى أدلة وبراهين، يبدو أكثر كشفا لادعاءاته وأقدر على إقناع العالم بأنها على صواب.

رقصة العجوز الأخيرة!

لكن ثمة تساؤل آخر، مفاده أنه إذا لم يكن “عباس” جادًّا في تهديداته تلك، إلى حد تراجعه عنها بعد ساعات، فما الهدف منها؟.

منطقيا، فإن محاولة الضغط أكثر على حركة حماس لتسليم قطاع غزة بالكامل، واللعب على وتر تجريد كتائب القسام والمقاومة في القطاع من سلاحها هي الإجابة النموذجية، في ظل حديث متكرر له عن مسألة السلطة الشرعية والسلاح الشرعي، ورفضه ما قال إنه توجه حماس بعبارة (أنتم فوق الأرض ونحن تحتها)، في إشارة إلى أنفاق المقاومة.

إلا أن الخطاب الذي شهد التهديدات تضمن رسائل أخرى بدا فيها “عباس” يوجه سهامه للجميع، محاولا إظهار أنيابه، وفي هذا السياق، يمكن تفسير سبه للسفير الأمريكي في تل أبيب “ديفيد فريدمان”.

هذه “الشجاعة” إن جاز التعبير، ربما تنم عن ضعف وليس قوة، لرجل تجاوز الثمانين عاما، ويقل تدريجيا نفوذه الإقليمي والدولي وثقة الأطراف المختلفة فيه، أبرزها مصر، لما يخص ملف المصالحة، وأمريكا لموقفه من قرار القدس ونقل السفارة ومؤخرا سب السفير، وإسرائيل بسبب حدة خطابه تجاهها مؤخرا.

نفوذ “عباس” الآخذ في الاضمحلال، يتزامن مع صعود كبير لنجم القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، وما يتمتع به من ثقل وعلاقات واسعة ومتشعبة بمختلف الأطراف الإقليمية والدولية، ما يؤهله لتصدر المشهد بعد إزاحة “عباس” غير المرغوب فيه من الجميع.