لا يزال الرفضُ لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيد سيدَ الموقف، حيث جمع قيس السلطات كلها بين يديه، وجعل قراراته محصنة من أي رقابة أو نقض أو إلغاء، في ذات الوقت الذي تُثار فيه تساؤلات حول كيفية مواجهتها وإمكانية اصطفاف النخبة السياسية بمختلف توجهاتها في جبهة واحدة للتصدي لها.
القاضي أحمد الرحموني، انتقد، في دراسة نشرها على صفحته بموقع فيس بوك، التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس، معتبرًا أنه “حوّل الدستور إلى أشلاء ولم يحافظ سوى على 49 فصلا من جملة 149، هذا بالإضافة لمؤسسات بأكملها (الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع القوانين)”.
كما يرى الرحموني أن هذه الإجراءات الرئاسية عبارة عن “تركيب نصوص متناثرة من الأبواب الخاصة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية من دستوري 1959 و2014 ضمن رؤية استبدادية “شعبوية” هدفها تركيز السلطات الأساسية بيد رئيس الجمهورية”.
واعتبر الرحموني أن هذه القرارات صارت فوق الرقابة، فقد “أقر الأمر الرئاسي عدد 117 أحكاما استثنائية غير مقيدة وغير خاضعة للرقابة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى التعسف في استعمال السلطة”.
يبدو المشهد السياسي الداخلي على درجة عالية من التوتر، فالجميع ينتظر كيف ستُترجم قرارات سعيد على الأرض، وكيف ستتشكل الحكومة المزمع تكوينها، بينما تتواصل ردود الفعل الحزبية والحقوقية الرافضة لهذه القرارات التي تقود إلى تفرد سعيّد المطلق بالسلطة.
رفض جماعي لقرارات سعيد
والخميس، أصدر “ائتلاف الكرامة”، بيانا أعلن فيه رفض “ما سمِي باطلا بالتنظيم المؤقت للسلطات والإعلان عن استحواذ رئيس الجمهورية على كل سلطات البلاد، في تطور خطير وتنكر لسبعين سنة من الدولة والإدارة التونسية وكفاءاتها”.
واعتبر الائتلاف أن “هذه الإجراءات ما هي إلا حلقة جديدة وخطيرة إلى ما قد نبّهنا إليه منذ يوم 25 جويلية (يوليو/ تموز) من انقلاب على إرادة الشعب وعلى الدستور وعلى كل مؤسساته المنتخبة واستفراد بالقرار في كافة السلطات”.
كما أكد البيان أن “رئيس الجمهورية قد خرج عن الشرعية الدستورية وفقد مشروعيته السياسية، على أثر القرارات الأخيرة التي خرقت كل النواميس القانونية والأخلاقية والسياسية المتعارف عليها وطنيا ودوليا، وانقلب على دستور الثورة التونسية الذي أقسم على حمايته، وها هو اليوم يدوسه تحقيقا لأهدافه الشخصية”.
ائتلاف الكرامة دعا النخبة السياسية بمختلف أطيافها إلى مقاومة كافة أشكال الاستبداد الجديد، عبر صياغة مواقف سياسية موحدة، فضلًا عن مساندة “كل تحرك أو احتجاج سلمي ومدني وقانوني لمناهضة الديكتاتورية الجديدة المهددة لمستقبل الشعب التونسي الحر”.
وفي موقف فاجأ الكثيرين، أعلنت رئيسة حزب “الدستوري الحر” عبير موسي، أنّ حزبها “سيتركّز في موقع المعارضة بعد أن كان في موقع المساندة النقدية لسعيّد”، داعية رئيس الدولة إلى “تحديد مدة هذه الإجراءات وموعد إجراء الانتخابات”، مؤكدة “رفضها للديكتاتورية” وما وصفته بـ”الحكم الفردي المطلق”.
وشددت على أن “مجلة الأحوال الشخصية والأمن القومي التونسي والحقوق والحريات وحق التعبير وحرية الصحافة والنشر، خطوط حمراء”.
والجمعة، قال زعيم حزب “العمال” اليساري حمة الهمامي إن “ما قام به سعيّد يعد انقلابا على كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واستفرادا بالسلطة”، معربًا عن “رفضه التام لهذا النهج الذي يؤسس لحكم فردي مطلق استبدادي معاد لمطامح الشعب التونسي”.
وفيما أعلن “انخراط حزب العمال في مقاومة الانقلاب والتمسك بشعارات الثورة والعمل على تحقيق أهدافها ضمن برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي شعبي بديل”، دعا “كل القوى السياسية والاجتماعية والمدنية التقدمية والديمقراطية إلى العمل المشترك لوضع حد للتلاعب الجنوني والخطير بمصير الشعب”.
إذن، يتضح من النماذج الثلاثة السابق ذكرها، “الكرامة” و”العمال” و”الدستوري”، أنهم جميعًا متصارعون متناقضون مختلفون سياسيًا، لكنهم توحدوا حول رفض قرارات سعيد سياسيًا.
وأمس الخميس، صدرت مواقف مجتمعة من ناحية أحزاب “الجمهوري” و”التكتل” و”آفاق تونس” و”التيار الديمقراطي”، بينما صدرت مواقف أخرى لأحزاب “حراك تونس الإرادة” و”حركة وفاء” و”الإرادة الشعبية” و”الاتحاد الشعبي الجمهوري”، فيما كانت بقية المواقف منفردة، بينما يدعو الجميع إلى توحيد الصفوف.
الأيديولوجية حاكمة
ويطرح هذا التشرذم الحزبي سؤالا حول إمكانية توحيد جهود كل هذه الأحزاب، في حين يتواصل التلاسن بين مكوناتها برغم خطورة الوضع.
يعلق بعض المحللين أنه طالما أن مشكلة الديمقراطيين هي حركة النهضة وليس الفساد ولا الاستبداد، وطالما أنهم إلى الآن يَرَوْن أن الصراع هو بين النهضة والرئيس وليس بين الديمقراطية القاعدية وبين الديمقراطية التمثيلية بكل أحزابها ومؤسساتها، فمن المحال أن تتشكل جبهة لمقاومة الانقلاب، ومحال أن يفشل الانقلاب ما دام المنطق هذا هو الذي يحكم العقل السياسي للديمقراطيين.
يرى البعض أن الديمقراطيين في تونس يتحركون على أساس أيديولوجي، ويعتبرون النهضة كأنها هي العدو الأصلي وليس الفساد أو الاستبداد، وبالتالي فمن مستحيل أن يحصل توافق بينهم وبين الإسلاميين على قواعد المشترك الوطني.
وحتى اللحظة، يبدو أنه لم تحصل استفاقة حقيقية لدى العائلة الديمقراطية، فالسياسي محمد عبو مثلا يتحدث عن توحد القوى الديمقراطية ويستثني النهضة استثناءا مطلقا، وكأن القوى الديمقراطية كلها غير فاسدة والنهضة هي الفساد المطلق. ولا شك أن سعيد يستفيد من هذه الحالة أكثر من غيره.
الخلاصة، مواقف غالب الأطياف السياسية معارضةٌ لقرارات سعيد، لكنها حتى الآن تأبى التوحد في موقف سياسي جامع، وهو ما يستفيد منه سعيد في المقام الأول. وإذا ما وضعت القوى السياسية تجربةَ التحول الديمقراطي نصب أعينهم، وجعلوها أول أهدافهم، فلا شك أنهم سيتعالون على الأيديولوجيات والتحزبات، وسيتخذون موقفًا سياسيًا موحدًا، يستطيعون من خلاله الضغط على سعيد وإنقاذ التجربة الديمقراطية المهددة.
اضف تعليقا