العدسة – منصور عطية
تهديدات شديدة اللهجة أعقبت قرارًا غير إلزامي للسلطة الفلسطينية بتعليق اعترافها بإسرائيل، أتت كردّ فعل على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن مشاركته في افتتاح سفارة بلاده بعد نقلها إلى القدس المحتلة في مايو المقبل.
وعن واقعية الطرح الفلسطيني، فضلًا عن التجارب السابقة حول تهديدات مماثلة لمسؤولين لم تتجاوز ألسنَ الناطقين بها، فإنها تدفع باتجاه أن تكون مسألة سحب الاعتراف بدولة الاحتلال مجرد عبارات جوفاء للاستهلاك الإعلامي، لكن تبقى حالة الغضب التي تشهدها الساحة الفلسطينية منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للاحتلال محفزًا على أن ترى التهديدات النور أخيرًا.
لا سبيل سوى التعليق
التهديد جاء على لسان “صائب عريقات” أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي قال إنه “لا سبيل أمام الفلسطينيين سوى تعليق الاعتراف بإسرائيل”.
وأضاف في بيان له أن “الرئيس ترامب أراد عزل القدس، فعزل الولايات المتحدة، ولا سبيل أمامنا سوى تنفيذ توصيات المجلس المركزي بتعليق الاعتراف بإسرائيل حتى تعترف بدولة فلسطين”.
وكان ترامب قال، خلال استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض الاثنين، إنه يعتقد بوجود فرصة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين “بعد إزالة قضية القدس عن طاولة المفاوضات”.
ولم يستبعد ترامب التوجه إلى القدس لافتتاح السفارة الأمريكية في 14 مايو المقبل، في خطوة مثيرة للجدل تتزامن مع الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل.
وفي يناير الماضي، قرر المجلس الوطني الفلسطيني تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود عام 1967، واعتبر أنَّ الفترة الانتقالية التي نصَّت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن بما انطوت عليه من التزامات لم تعد قائمة.
واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، عام 1993، بموجب اتفاق أوسلو للسلام، لكن إسرائيل لم تعترف حتى الآن بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة.
ماذا يعني القرار؟
وقبل الخوض في إمكانية تنفيذ السلطة الفلسطينية لتهديداتها بتعليق الاعتراف بإسرائيل، وجب التعرض لما يعنيه قرار مثل هذا وتداعياته على القضية الفلسطينية والمنطقة برمتها.
الترجمة الحقيقية لقرار تعليق الاعتراف بإسرائيل تعني العودة إلى ما قبل اتفاق أوسلو، أي المربع صفر في عملية التسوية السياسية والمفاوضات وقضية السلام التي انتهجتها حركة فتح بعد نضال مسلح في وجه الاحتلال، وتوجت باتفاق أوسلو.
ومنطقيًا فإنَّ القرار من شأنه إعطاء الضوء الأخضر للشارع الفلسطيني ولحركات المقاومة التي كبّلتها أو حدت من انطلاقتها مفاوضات السلام، من أجل أن تطلق العنان لسلاحها في مواجهة الاحتلال في عموم الأراضي الفلسطينية حتى الضفة الغربية والقدس وغيرهما.
وكان خطاب اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل ينص على إدانة استخدام “الإرهاب وأعمال العنف”، وقُصد بها في حينه أعمال المقاومة، وعليه فإن أي عمل مسلح لن يجلب رفض واستنكار السلطة كما جرى على مدار الأعوام الماضية خاصة أحداث انتفاضة السكاكين.
ويعني هذا التحرك أيضًا بشكل عملي تعليق العمل برسالة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين مطلع تسعينيات القرن الماضي بشأن إعلان المبادئ.
وكانت رسالة عرفات حينها تنص على “أن المنظمة (منظمة التحرير الفلسطينية) تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط وبالحل السلمي للصراع بين الجانبين، وتعلن أن كل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة سوف يتم حلها من خلال المفاوضات”.
الآن وقد وصلت المفاوضات بين الجانبين إلى طريق مسدود على مدار ربع قرن من المفاوضات، تنصلت فيها إسرائيل من كل التزاماتها، فلا شيء يجبر الفلسطينيين على الاستمرار فيها.
القرار يعني أيضًا إلغاء جميع تعهدات السلطة الفلسطينية الواردة في اتفاق أوسلو، ولعل أبرزها مسألة التنسيق الأمني مع الاحتلال، والذي بموجبه أعطى للسلطة حكمًا ذاتيًا في بعض المناطق.
لكن يظل الأثر الأبرز والمباشر لقرار مثل هذا هو رفع الغطاء الشرعي عن السلطة الفلسطينية واعتبارها والعدم سواء، حيث كان قرار إنشائها ضمن مقررات اتفاق أوسلو وتأسيسًا على اعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل.
بين التنفيذ والتراجع
إذن يبدو أن الأمر يخضع لسيناريوهين لا ثالث لهما؛ أولهما أن تمضي السلطة الفلسطينية قُدمًا في تنفيذ تهديداتها وتعلن تعليق اعترافها بإسرائيل، ورغم عدم ترجيح هذا السيناريو إلا أنَّ ثمة أمرًا واقعًا قد يدفع باتجاهه.
حالة الغضب التي تنتاب الشارع الفلسطيني منذ قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال ربما لم يشهد مثلها منذ عقود، الأمر الذي يبشر باندلاع انتفاضة غير مسبوقة تفوق في قوتها واتساعها كل ما سبق أن أشعله الفلسطينيون في وجه الاحتلال.
الظرفان الزماني والمكاني في الداخل الفلسطيني يبدوان مواتيين لقرار فلسطيني جريء يسعى إلى وضع حد للانحياز الأمريكي للاحتلال، وينهي ممارساته البغيضة.
على النقيض، ووفق السيناريو الأكثر ترجيحًا، فإن التهديد بتعليق الاعتراف بإسرائيل سيذهب أدراج الرياح، اتساقًا مع تهديدات متكررة على مدار الأعوام الماضية بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال.
هذا التهديد أطلقه مسؤولو السلطة عدة مرات، تزامنا مع أحداث كبرى من بينها 3 حروب شنها الاحتلال ضد قطاع غزة أعوام 2008 و2012 و2014، وتوطين مئات الآلاف من اليهود في الضفة الغربية المحتلة والقدس، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى وإغلاقه مؤخرًا وتقسيم الحرم الإبراهيمي وغيرها.
لكن هذه التهديدات المتكررة بقيت دومًا مجرد تصريحات إعلامية فقط، ولم تنفذ السلطة أيًا منها، بل زادت من مستويات التنسيق الأمني مع الاحتلال.
غير هذا فإنَّ السلطة الفلسطينية بقرار مثل تعليق الاعتراف بإسرائيل تكون قد أقدمت على الانتحار؛ حيث يعني عمليًا أن انتهاءها وبقاءها هما والعدم سواء، ولاحقًا بطلان جميع ما اتخذ من قرارات وإجراءات بناء على اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة، الأمر الذي يضرب شرعية السلطة وعلى رأسها الرئيس محمود عباس في مقتل.
كما أن الأموال التي تتلقاها السلطة من الجهات المانحة لاشك أنها لن تكون مستعدة للتفريط فيها بهذه السهولة، وهي التي تضمن لقادة السلطة البقاء، ولموظفيها البالغ عددهم نحو 150 ألف شخص العيش.
لكن التراجع عن التنفيذ لن يكون صريحًا أو مباشرًا، لكن ربما تسبقه تبريرات مثل الضغوط الدولية، والحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني، وعدم ملائمة الظروف العربية والدولية لاتخاذ خطوة كهذه، وغيرها.
اضف تعليقا