العدسة  – أحمد عبد العزيز

أوقعت المملكة العربية السعودية نفسها في ورطة دولية عويصة، ربما لم تتعرض لها من قبل، نتيجة جنون العظمة الذي أصاب ولي العهد محمد بن سلمان، ورغبته المحمومة في الوصول إلى الكرسي بأسرع وقت ممكن، غير عابئ بالخسائر التي قد تتكبدها بلاده نتيجة هذا الاندفاع.

تتمثل الورطة في أزمة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي استدعته السعودية على عجل من بلاده، وعندما وصل اكتشف أنه تعرض لكمين، حيث أجبره “بن سلمان” على تقديم استقالته وقراءة استقالة كتبت إليه، قبل وضعه تحت الإقامة الجبرية في السعودية بدعوى أنه مواطن يحمل الجنسية السعودية.

الأمير المرتبك

الغرض السعودي من وراء هذه الخطوة كان واضحا جدا، رغم سيل النفي الذي لم يتوقف منذ إعلان الاستقالة وحتى الآن، فالرياض كانت تعتقد أن استقالة الحريري قد تسبب في تحجيم دور حزب الله وضرب إيران سياسيا، وهو انتصار يحتاجه بشدة ولي العهد الشاب، الذي أخفق في كل المعارك العسكرية والسياسية التي خاضها حتى الآن، حتى يقدم نفسه للسعوديين بأي إنجاز قبل استيلائه على السلطة.

فالرجل الذي توجه لمحاربة الحوثيين في اليمن، فوجئ بالحوثيين ينقلون الحرب إلى الأراضي السعودية، حيث بات وزير الدفاع عديم الخبرة العسكرية، غير قادر على حماية مواطنيه من الصواريخ الحوثية، وطال أمد الحرب التي باتت وكأنها لن تنتهي، كما سجل فشلا سياسيا مماثلا مع إيران، التي عجز عن مواجهتها في كل الميادين التي تصدى لها فيها، أضف إلى ذلك الخسائر الدولية والمعنوية التي تكبدها نتيجة حصارها لقطر، بمزاعم واهية أفضت في النهاية إلى اكتشاف السعوديين أن الرجل يقودهم إلى مصير مجهول.

وجاءت خطوة إجبار الحريري على الاستقالة بالتزامن مع حملة عنيفة وغير اعتيادية في البيت السعودي، قام خلالها محمد بن سلمان بالقبض على أبناء عمومته والاستيلاء على أموالهم، واتهامهم بالتورط في جرائم فساد واختلاس ورشوة وغسيل أموال، حتى يزيحهم من طريقه ويطمئن إلى أن أحدا لن يعوق خططه المستقبلية للجلوس على عرش السعودية في حياة أبيه.

إلا أن الشاب المرتبك، لم يكن يتوقع أن تتسبب خطوة إجبار الحريري على الاستقالة في كل هذا الجدل الدولي، بعدما رفض تصديقها كل اللبنانيين، خصوم الحريري قبل أنصاره، وجاءت بنتائج عكسية هو في غنى عنها تماما خلال هذه المرحلة الحاسمة بالنسبة لاستيلائه على الحكم.

ورطة كبرى

وبات “بن سلمان” الآن في ورطة كبرى، فما فعله مع الحريري لن يظل طويلا طي الكتمان، بل تسرب بالفعل، ولكن الجميع ينتظرون أن يسمعوا تأكيدا من الحريري حول ما تعرض له داخل الرياض، حتى يتم اتخاذ الإجراء الدولي المناسب ضد السعودية، ولكن يحتاجون أن يسمعوا ذلك من الحريري وهو خارج الرياض، حتى يتأكدوا من أنه يقول الحقيقة فعلا دون إكراه.

وهو ما كشفته ردة الفعل على اللقاء التليفزيوني الذي أجراه الحريري مع قناة المستقبل اللبنانية، فقد حاولت السعودية من هذه الخطوة، أن توحي بأن الحريري حر طليق يستطيع مقابلة وسائل الإعلام، ولكن وسائل الإعلام التي يمتلكها والتي أيضا تستطيع السعودية السيطرة عليها، إلا أن اللقاء جاء بنتائج عكسية، وخرجت العديد من الأصوات تؤكد أن اللقاء التليفزيوني دليل إدانة للسعودية ويكشف بلا أدنى شك أن الحريري قيد الإقامة الجبرية، وأنه مجرد لقاء “مسرحي” لتضليل الجميع عن الحقيقة.

بل إن مواقع التواصل الاجتماعي انشغلت بمحاولة فك شفرة ما قاله الحريري خلال اللقاء، ظنا منها أنه قد يحاول إرسال رسالة ضمنية مبطنة بأنه مختطف فعلا ولا يستطيع فعل شيء، وأنه يريد المساعدة والتدخل الدولي لإنقاذه من جنون “بن سلمان”.

وما أكد هذه الشكوك، هو ملابسات إذاعة اللقاء، والشخص المريب الذي كان يقف ليس بعيدا خلف المذيعة ممسكا بورقة وقلم، والذي كان ينظر إليه الحريري بين الحين والآخر بريبة وقلق، وهو ما دعا الكثيرين للقول بأن ذلك أكبر دليل على أن الحوار أملي على الحريري، أسئلة وإجابة.

فلو كانت السعودية صادقة حقا فيما تقول، وأن الحريري قرر فجأة إهمال كل ارتباطاته في لبنان بحكم منصبه والتوجه إلى الرياض لإعلان استقالته التي لم يكن هناك أي دلائل تمهد لها، فلماذا لا تترك الحريري يغادر الرياض ويعود إلى لبنان؟ ولماذا تجبر أسرته على البقاء لديها في ظل هذه الظروف التي تعصف بمصداقية السعودية؟

والسبب هو الورطة التي تحدثنا عنها في البداية، فقد أوقعت السعودية نفسها في الفخ، فلو أطلقت سراح الحريري الآن وسمحت له بمغادرة أرضيها، قطعا سيكشف ما تعرض له وسيتغير خطابه خارج الرياض عما كان عليه وهو حبيس آل سعود، ما سيعرض السعودية لأزمة دولية طاحنة.

وإن أصرت على احتجازه لديها، سوف تزيد من الشكوك الدولية حول ما تفعله مع الرجل، ما يفاقم الأزمة وينذر بانفجار قريب، خاصة إذا ما علمنا أن الرئيس اللبناني ميشيل عون هدد الحكومة السعودية عبر وسطاء، بأنه سيضطر للجوء إلى مجلس الأمن إذا استمر احتجاز الحريري لديها، رافضا اعتماد الاستقالة أو اعتبارها استقالة صادرة عن إرادة حرة.

حلول محدودة

الحلول أمام السعودية للخروج من هذه الورطة باتت محدودة ، وقياسا على التحول الكامل في سياساتها تحت قيادة “بن سلمان”، لم يعد من المستبعد أن تلجأ الرياض إلى الورقة الأخطر، التي من غير المستبعد أن يشير بها على محمد بن سلمان معاونوه الحاليون من القيادات الأمنية المصرية السابقة، التي تعمل معه حاليا في إدارة صراعه على السلطة، وعلى رأسهم وزير الداخلية السابق الهارب حبيب العادلي، وهي ورقة اعتادت استخدامها الداخلية المصرية بكل أريحية ورباطة جأش.

فقد نفاجأ خلال الأيام القادمة، بإعلان وكالة الأنباء السعودية، وفاة المواطن السعودي، ورئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، وفاة طبيعية، نتيجة تعرضه لارتفاع حاد في الدورة الدموية، وإقامة الصلاة عليه بمسجد تركي بن عبد الله بالرياض، ومواراة جثمانه الثرى بمقبرة “العود” إلى جوار ملوك السعودية السابقين.

رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته نظير ما قدمه للأمة الإسلامية بقيادة محمد بن سلمان، وألهم أسرته المحتجزة الصبر والسلوان.