تخطت العلاقات التركية الخليجية حدود العلاقات الكلاسيكية التقليدية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002. وحدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مقالة كتبها للإعلام الخليجي بعنوان “حان الوقت لمبادرات السلام والتعاون الإقليمي”، أهم أهداف زيارته الإمارات أخيرا بأنها ستتيح الارتقاء أكثر بعلاقات التعاون بين البلدين، وأنها ستنعكس إيجابا على المنطقة.

سيواجه الرئيس أردوغان انتقادات من المعارضة التي بدأت منذ أسابيع تبرز الجوانب التجارية والمالية في الزيارة، لكن قناعة كثيرين في تركيا أيضا أنها زيارة أبعد من أهداف وتطلعات العودة بالعقود واتفاقيات النقود. لا يمكن فصل الحراك التركي باتجاه الإمارات عن سياسة تركية إقليمية جديدة تحت عنوان إعادة التموضع في التعامل مع الملفات التي وترت علاقات أنقرة بدول الجوار، وفي مقدمتها دول عربية عديدة، لكن مفاجأة أردوغان كانت حديثه عن أمن الخليج الذي لا يمكن فصله عن أمن تركيا.

نجحت حكومة “العدالة والتنمية” في تركيا، مع وصولها إلى السلطة قبل عقدين وحتى عام 2012، في اكتساب موقع تصاعدي مميز في علاقتها الاقتصادية والسياسية مع دول الخليج. حاولت لاحقًا، مستفيدة من هذا التقارب والتنسيق بين الطرفين، أن تنتزع دورا إقليميا في توازنات الخليج الأمنية.

الخطوة الأولى في الشق الأمني من العلاقات التركية الخليجية كانت في عام 2004 عبر المنظومة الأطلسية الداعمة دور الحلف في الأمن الإقليمي الخليجي، ارتكازاً إلى ما تعرف بـ “مبادرة إسطنبول” التي أطلقها شركاء حلف الناتو وقتها. جاءت الخطوة الثانية في هذا الاتجاه، من خلال توقيع “مذكرة التفاهم الاستراتيجي” مع المنظومة الخليجية في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول 2008، وتأسيس آلية الحوار التركي الخليجي المشترك، بهدف تعميق العلاقات بين الجانبين في مجالات عديدة. وقيل، في قمة يوليو/ تموز 2009 في إسطنبول، التركية الخليجية، إن تركيا تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره، وستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر، مباشرةً، من أي تدهور أمني هناك. لاحقا، توقف البيان التركي الخليجي المشترك في قمة الرياض عام 2016 عند التنديد بمحاولات إيران التصعيد العسكري في المنطقة والتهديد بإطلاق صواريخ بالستية قادرة على حمل سلاح نووي ضد العواصم الخليجية. 

وعند ما قاله وزير الجمارك والتجارة التركي، بولنت توفنكجي، إن بلاده ستكون مستعدّة بشكل دائم لعقد اتفاقيات مع دول مجلس التعاون الخليجي في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والتجارية، وأن بلاده تعد أمن الخليج من أمنها والعكس صحيح، لنصل، في النهاية، إلى مقالة أردوغان، وهو في طريقه إلى أبوظبي، يكتب فيها إن “أمن واستقرار دولة الإمارات العربية المتحدة وجميع دول الخليج لا ينفصل عن أمن تركيا واستقرارها”.

صحيح أن الرسائل التركية منذ 18 عامًا كانت في معظمها باتجاه إيران ومحاولات انتشارها في العمق الخليجي العربي، لكن التحول الحاصل في الطروحات التركية التي كانت، في غالبيتها، أحادية الجانب، أقلقت لاعبين إقليميين عديدين آخرين في المنطقة، بينهم مصر وإسرائيل، اللتان رأتا في أي دور تركي أمني مرتقب في الخليج خطورة على حساباتهما ومصالحهما وموقعهما في لعبة النفوذ والتوازنات. انقسمت العواصم الخليجية والعربية حيال الطرح الأمني الاستراتيجي التركي الجديد بين مؤيد يرى في تركيا القوة العسكرية الإقليمية القادرة على أن تأخذ مكانها في خطط التصدي للتهديدات والاستفزازات الإيرانية، والقوة القادرة على توفير الخبرات الواسعة في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية المتقدمة، وبين الرافض والمعترض الذي حدثنا عن “الوجود العسكري التركي في قطر الذي يهدّد أمن الخليج بسبب الاختراق الإخواني للمنطقة”، وفئة أخرى ترى في تركيا خطرًا على أمن الخليج العربي، مرفقًا بتوضيح مختصر “تركيا تطوّق الخليج العربي ببسط نفوذها على الدول المحيطة به، والتي وجدت في المشاغبات التركية تهديدًا لمصالحها، فدخلت في المعادلة لتقويض الدور التركي ووضع حد له”. 

ما أغضب بعضهم في المنطقة ربما هو ترجيح وخيارات تركيا التي وجدت نفسها أمام تقاطع مهم في عام 2017 بعد الأزمة الخليجية، والذي حسم لصالح الوقوف إلى جانب قطر على حساب سياسة تركية حيادية تقليدية، تغيرت عندما وجدت هذا الإصرار على محاصرة قطر وإضعافها، وأن منظومة العلاقات التي بنتها مع الدوحة مهدّدة، وأن اسمها مدرج على لائحة المطالب والشروط المقدّمة إلى قطر قبل أربعة أعوام. ألم يتحدث، أخيرًا، أحدهم عن الاختراق الأمني الإسرائيلي “الرسمي” منطقة الخليج والاتفاقيات العسكرية والاستخباراتية الموقعة لحماية المصالح المشتركة، وهو ينتقد معادلة أمن الخليج من أمن تركيا؟

العقبة التي تنتظر تركيا اليوم في أثناء الحديث عن توحيد المصالح الأمنية مع دول الخليج تسجيل اختراق حقيقي بشكل متوازن، يأخذ مصالحها ومصالح بقية الدول بعين الاعتبار، ثم إعلان موقف واضح وحاسم حيال سياسة إيران الخليجية والعربية، بعكس السياسة التركية المعتمدة، والتي تقوم على محاولة لعب دور الشريك المحايد في منطقة الخليج، من دون الدخول في عقود واتفاقيات أمنية مباشرة مع المنظومة الخليجية، تواجه التوغل الإيراني، فهل ستفعل أنقرة ذلك، خصوصا أن عواصم خليجية عديدة لن تكتفي بتكرار تركيا مواقفها الكلاسيكية حيال إيران، بل ستطالبها بترجمات عملية جذرية وعاجلة، في حال دخلت إدارة بايدن في لعبة تفاهمات مع طهران بشأن الملف النووي؟

تريد أنقرة العودة إلى علاقاتها القديمة مع دول الخليج والعالم العربي، وإلى ما كانت عليه قبل عقد، لأن سياسات الأعوام الأخيرة سببت لها ارتدادات سلبية كثيرة على مصالحها ونفوذها، وهذا الشق ممكن وقابل للتحقيق. تغيرت معادلات وتوازنات وأجواء سياسية كثيرة في الإقليم، بعد اشتعال أكثر من مكان في المنطقة، وما رافقه من خضات وأزمات وانقسامات وشرذمة تحولت إلى اصطفافات وتمترس حاد بين عواصم عديدة في المنطقة، دفع الجميع نحو مراجعة السياسات والمواقف، وهي نقطة أخرى قد تصبّ في مصلحة تركيا، لكن القيادات السياسية التركية تتحدث عن مسألة مختلفة هذه المرة وبالغة الحساسية، وهي الشق الأمني الاستراتيجي، متجاهلة حسابات ومصالح لاعبين إقليميين ودوليين آخرين في المنطقة، فكيف ستفعل ذلك؟

علمتنا دروس العقد المنصرم ألا نتدخل في شؤون دول المنطقة من دون رغبتها وطلبها أو رغما عنها. قبل الحديث عن تداخل الأمنين، التركي والخليجي، لا بد من إزالة رواسب بيانات القمم العربية أخيرًا، وما توقفت عنده من مواقف تعني تركيا وسياستها العربية. لا يكفي أن تقول تركيا إن أمنها وأمن منطقة الخليج متداخلان، لا بد أن نسمع كلامًا مشابها من القيادات السياسية العربية، ونبرة انفتاحية على ما تقوله أنقرة وهو ما لم يحدث. 

تستطيع العواصم الخليجية الدفاع عن نفسها، إذا ما وحدت قواها العسكرية في مواجهة أي اعتداء تتعرض له في الإقليم. “الخطر” الاسرائيلي يتراجع كما يبدو. المصالحة التركية العربية تتقدم بشكل أو بآخر. التهديد إيراني بالدرجة الأولى بالنسبة لدول الخليج، فهل أنقرة على استعداد للوقوف إلى جانبها في مواجهة إيران، والتضحية، عند اللزوم، بكثير من علاقاتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية مع طهران أم لا؟ هل سيتراجع التنسيق التركي الإيراني في سورية لصالح التنسيق التركي العربي هناك؟ هل أنقرة على استعداد للتصعيد أكثر ضد إيران في ملفاتٍ تعني العالم العربي، مثل العراق واليمن ولبنان مثلا؟ ما الذي سنقوله لإسرائيل غدا، إذا ما أعلنت، هذه أيضا، أن أمن الخليج بات جزءا من أمنها القومي أيضا بضوء أخضر من بعض العواصم العربية؟

قد تقبل دول الخليج وضع خلافاتها مع تركيا وراء ظهرها، لكن تحقيق إنجازات في المسائل الأمنية يحتاج إلى توافق خليجي يأخذ بعين الاعتبار ديناميكيات الوضع الإقليمي وسيناريوهاته في كثيرٍ من جوانبه.