كما أن لبنان يعيش حالة من الانسداد السياسي والفراغ الوزاري حاليًا، فإن الحالة الاقتصادية لا تبتعد عن هذه الحال السيئة، حيث تعيش الليرة اللبنانية حالة انهيار غير مسبوقة. وبالطبع، فإن التردي السياسي والاقتصادي يؤثران في بعضهما البعض، فلا يمكن انتشال لبنان من أزمتها الاقتصادية دون وجود حكومة قوية، قادرة على اتخاذ قرارات جوهرية.
ومن الحلول الاقتصادية التي دعا إليها البعض، هي مسألة تعويم العملة المحلية. وقد تحدث عن ذلك حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في الثامن من يناير/ كانون الثاني الماضي، حيث قال إن عصر تثبيت سعر الصرف قد “انتهى”.
ولكي نقرب المسألة بشكل أوضح ينبغي أولًا توضيح أسعار صرف العملات في لبنان. يوجد على الساحة اللبنانية 3 أسعار للصرف مقابل الدولار الأمريكي، الأول هو سعر مصرف لبنان الرسمي وهو حوالي 1507 للدولار، والثاني هو سعر الصرف في البنوك اللبنانية بسعر 3900 للدولار للتجار، والثالث 14500 للدولار في السوق السوداء.
وخلال الأيام الأخيرة، وصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي 15 ألف ليرة في السوق السوداء، وذلك بعد أيام قليلة من بلوغه 10 آلاف ليرة مقابل الدولار، الأمر الذي يدل على أن تفاقم الأزمة يأتي بوتيرة سريعة.
توابع انهيار سعر الصرف..
ومن توابع انهيار سعر صرف العملة المحلية، ارتفاع معدلات التضخم، ما يعني زيادة معاناة المواطن اللبناني، الذي يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية، حيث من المتوقع أن يتحمل المواطن تراجع القدرة الشرائية، كما أن معدلات الفقر هي أحد توابع الأزمة بطبيعة الحال.
ووفقًا لتقرير لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا “الإسكوا”، فإن معدلات الفقر في لبنان، قد ارتفعت إلى 55 بالمئة خلال 2020، في الوقت الذي تزايد فيه معدل الذين يعانون من الفقر المدقع بثلاثة أضعاف، من 8 بالمئة إلى 23 بالمئة.
وبالطبع، فإن أحد الدوافع القوية تجاه تعويم العملية، هو صندوق النقد الدولي، حيث يشترط الصندوق على أي مقترض أن يعوم عملته، وذلك للبدء في التفاوض والتمكن من الحصول على سيولة من الدولار تساهم في حل الأزمة النقدية المتصاعدة.
لكن هناك اختلاف في الآراء حول فعالية التعويم وتوابعه، وخصوصًا في ظل أن القائمين حاليًا على الشأن الاقتصادي في لبنان، لا يملكون أدوات العرض والطلب.
التعويم مطبق على أرض الواقع..
حيث يرى مراقبون أن مفهوم “التعويم” مطبق عمليًا على أرض الواقع، وأن ما يحدث في السوق السوداء هو أحد أشكاله حتى لو لم يكن هناك قرار رسمي بذلك، إلا أن المعاملات الاقتصادية عند سعر 1507 و3900 دولار، ما زالت تستحوذ على نسب كبيرة.
ويؤكد هؤلاء المراقبون أن لبنان في صلب عملية التعويم حيث إنه بمجرد أن يرفع مصرف لبنان دعمه لأسعار الدولار، فإن سعر الصرف سيتحرر بشكل تلقائي.
ويذكر أن البنك المركزي قد أصدر قرارًا بجعل سعر صرف الدولار 3900 ليرة لموردي السلع الرئيسية في لبنان، وذلك كأحد أشكال دعمه ولمنع تضخم السلع بشكل أكبر مما هي عليه في الوقت الحالي.
لكن غالبًا ما يتبع التعويم ارتدادات اجتماعية صعبة، وربما تكون كارثية إذا نُفذ التعويم بشكل كلي، حيث إن وضع سعر الصرف ضمن آلية العرض والطلب بشكل كامل، في ظل الوضع النقدي الصعب سيثقل كاهل المواطن بأعباء إضافية، وبالتالي فإن الوضع الاجتماعي في البلاد لن يكون مستقرًا.
وعلى هذا، اقترح بعض الخبراء أن يكون التعويم موجهًا، للتخفيف من الضغط على ميزان المدفوعات، ومن ثم وقف نزيف الاحتياطي الأجنبي بمصرف لبنان وأموال المودعين.
في هذا السياق، يقول كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك “بيبلوس”، نسيب غبريل، إن “انتهاج سياسة التعويم تتطلب ضرورة تطبيق خطوات استباقية، وهي ضرورة وجود سيولة مالية وعودة النشاط الاقتصادي ووجود احتياطي أجنبي كافي من العملات الأجنبية”.
مضيفًا أن “التعويم الموجه سيسهم في توحيد سعر صرف الليرة، حيث سيكون المحدد الرئيس لسعر الصرف هو آلية العرض والطلب، مما يعني اختفاء السوق السوداء”.
التعويم ليس حلًا..
وعلى الجانب الآخر، يرى محللون أن تعويم العملة اللبنانية لن يحل الأزمة بحال، بل سيزيد من تفاقمها، حيث إن التعويم سيؤدي إلى تدهور الليرة بشكل أكبر، وزيادة أسعار السلع.
كما أن هناك مشكلة أخرى، وهي أنه بمجرد أن يعلن المسؤولون اللبنانيون تعويم العملة الوطنية، فإن المواطنون اللبنانيون سوف يسرعون في تحويل مدخراتهم من الليرة إلى الدولار، خوفًا من أن تقل قيمة الليرة بشكل أكبر، وهذا يعكس بكل تأكيد ضعف الثقة في الليرة اللبنانية.
علاوة على ذلك، فإنه كما هو معلوم، فإن السياسة النقدية في لبنان لا تحظى باستقلالية، حيث يتدخل السياسيون في التفاصيل الاقتصادية ويوجهون السياسات الاقتصادية للبلاد، وبالتالي فإن هذه مشكلة جديدة سوف تقلل من فعالية تعويم العملة، خصوصًا في ظل طباعة الليرة من قبل المصرف المركزي لتمويل النفقات العامة وعجز الموازنة.
انسداد سياسي..
ولا يزال لبنان حتى الآن يشهد فراغًا حكوميًا، حيث كان الرئيس ميشال عون، قد كلف رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة، في 22 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، عقب اعتذار الأكاديمي والدبلوماسي مصطفى أديب، لتعثر مهمته في تأليف حكومة تخلف حكومة رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب.
وعقب شهرين على ذلك، أعلن الحريري أنه قدم إلى عون “تشكيلة حكومية تضم 18 وزيرًا من التكنوقراط. إلا أنها لم تنل موافقة عون، الذي اعترض على ما سماه آنذاك بـ”تفرد الحريري بتسمية الوزراء، خصوصا المسيحيين، دون الاتفاق مع الرئاسة”. ومؤخرًا، أعطى عون الخيار للحريري، بين تشكيل حكومته فورًا أو إفساح المجال أمام الآخرين لتولي المهمة.
والأكيد أنه في ظل هذا الانسداد السياسي، وتشبث كل طرف بمصالحة الضيقة، فإن الحالة الاقتصادية سوف تظل في حالة من التردي المستمر.
اقرأ أيضًا: بين عون والحريري.. متى ستقدم الطبقة السياسية الحاكمة مصلحة الشعب؟
اضف تعليقا