تفاجئ الكثيرون عقب موجة ثورات الربيع العربي بالموقف السعودي المناهض للثورات والداعم للثورات المضادة، ثم ازدادت صدمتهم إثر السياسات السعودية الأخيرة التي توجت بحصار قطر والتقارب مع إسرائيل بزعم التصدي للخطر الإيراني ومكافحة الإرهاب!

فهل تغيرت السياسات الاستراتيجية السعودية؟ أم أنها تقفز داخل نفس القفص الذي تتحرك داخله منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم؟!

للإجابة عن تلك الأسئلة من المهم عمل جولة تاريخية تربط الحاضر بالماضي لإزالة الغموض وفهم المشهد.

تأسست الدولة السعودية الثالثة عام 1932 إثر تمكن الأمير عبدالعزيز بن سعود من توسيع رقعة حكمه – التي شملت آنذاك الرياض وأجزاء من نجد-  والقضاء على منافسيه من زعماء القبائل والعشائر مثل “آل رشيد” سادة حائل ، و”الأدارسة” سادة عسير، و”الأشراف”سادة الحجاز.

فقد جاءت رياح الحرب العالمية الأولى بما تشتهي سفن الأمير عبدالعزيز، فانحاز إلى الإنجليز، ونسق معهم سياساته، حتى أنه أرسل في ٢ إبريل١٩١٤ إلى المعتمد السياسي البريطاني بالبحرين ” تريفور” قائلا (تسلمت معلومات من المبعوث التركي “عمر فوزي بك مارديني” الذي وصل من القسطنطينية مباشرة.. ولم أحب أن أراه حتى أخبركم لكي تعلموني بالمطلوب وبأي شكل يكون).

وعندما لاحت بوادر مشاركة الدولة العثمانية في الحرب؛ كتب السير “ماليت” سفير بريطانيا بالقسطنطينية إلى وزير خارجيته “إدوارد جراي” بتاريخ ٤ سبتمبر١٩١٤ قائلا ( أوافقكم على أنه إذا تحالفت تركيا مع ألمانيا وأصبحت الحرب محتومة؛ فمن المحتمل أن يصبح من أهم الأسلحة دعم وتنظيم حركة عربية .. يجب أن يوجهها ابن سعود بالتعاون مع أصدقائنا من زعماء العرب).  ووقعت الحرب، وصار ابن سعود الرجل المفضل  في الجزيرة العربية بالنسبة لحكومة الهند التابعة للتاج البريطاني.

بالتوازي مع تلك التطورات انحاز “الشريف حسين” إلى الإنجليز، وصار الرجل المفضل بجزيرة العرب لدار المندوب السامي بمصر.

وفي ظل بوادر انهزام العثمانيين، اهتم الإنجليز بمناقشة مستقبل الجزيرة العربية، فورد في إحدى مذكراتهم الاستراتيجية عام 1917 (يمثل تفسيخ تركيا صدمة عنيفة لجمهور المسلمين في كل أنحاء العالم؛ وسوف يطلبون بديلا يتجمعون حوله …وعلينا لذلك أن نخلق دولة أكثر ملائمة لأنفسنا تتجه إليها أنظار الإسلام؛ وعندنا فرصة حاضرة في جزيرة العرب) .

وأضاف المعتمد السياسي البريطاني بالبحرين في أغسطس ١٩٢٠ قائلا(جزيرة عرب وسطى قوية يحكمها ابن سعود؛ وهو مرتبط بأشد العلاقات الودية مع الحكومة البريطانية؛ تكون ملائمة للسياسة البريطانية كل الملائمة؛ إنها ستحسم الكثير من المصاعب؛ وفي الوقت نفسه تجعل كل الدويلات الساحلية معتمدة علينا أكثر مما هى عليه الأن. الكويت والبحرين والساحل المهادن وعمان والحجاز وحتى سوريا سوف تعيش كلها في هلع من جارها القوي؛ وتكون أكثر انصياعا لرغبات حكومة الجلالة مما هى عليه اليوم.. إن طريقة العربي هى أن يعيش على تحريض جيرانه الأقوياء بعضهم ضد بعض. وفي نفس الوقت إذا لم يستطع القيام بذلك؛ فعليه أن يستند إلى دولة حامية قوية للالتجاء إليها؛ وإذا أصبح ابن سعود قويا جدا في جزيرة العرب؛ فإن النفوذ البريطاني يزيد زيادة عظيمة بين الدول الساحلية).

وعندما انتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية، طالب “الشريف حسين ” الإنجليز بتحقيق وعودهم له بمنحه الدولة العربية الكبرى التي تشمل الحجاز والعراق والشام وفلسطين ورفض الموافقة على (وعد بلفور). بينما طلب “ابن سعود”  السماح له بحكم الجزيرة العربية فقط مع التعهد بالحفاظ على المصالح البريطانية في الخليج، فتوقف الدعم الإنجليزي للشريف حسين، وسُمح لابن سعود باجتثاثه والسيطرة على الحجاز، فخرج الشريف طريدا إلى قبرص.

ثم مع تقهقر بريطانيا عن موقع الإمبراطورية عقب الحرب العالمية الثانية قابل الملك عبدالعزيز الرئيس الأميركي روزفلت على ظهر بارجة أمريكية بقناة السويس، واتفقا على تعهد أميركا بحماية الحكم السعودي مقابل تعهد آل سعود بالحفاظ على تدفق النفط لأميركا ومراعاة مصالحها بالخليج، مما مثل إيذانا بانتقال المملكة السعودية من الحظيرة البريطانية إلى الحظيرة الأمريكية.

توظيف البعد الديني

لم يتمتع آل سعود بجذور قبلية قوية تمكنهم من إخضاع قبائل الجزيرة العربية، لذا حرص الأمير عبدالعزيز على استدعاء الشرعية الدينية لأجداده في الدولة الأولى من خلال تحالفه مع  الوهابيين ممن عرفوا باسم (إخوان من طاع الله) . فقاتل الإخوان قبائلهم ومكنوا عبدالعزيز من بسط نفوذه، وعندما سعوا لإكمال ما اعتبروها فتوحات لنشر التوحيد خارج أراضي ابن سعود في العراق والكويت والعقبة، تصدى لهم ابن سعود بدعم بريطاني، وقضى على أبرز رموزهم “فيصل الدويش” شيخ قبيلة مطير، وسلطان بن بجاد” شيخ قبيلة عتيبة.

ورغم الصدام مع الوهابيين والقضاء على رموزهم، حافظت السعودية على قوتها الناعمة بإبراز نفسها كدولة راعية للإسلام والمسلمين، وهو ما ساهم في تغطية دورها الأساسي المتمثل في الحفاظ على المصالح الغربية بالخليج العربي ومحاربة أي قوة سنية تسعى للتحرر الحقيقي من هيمنة الدول الكبرى.

عندما ساءت علاقات النظام الناصري في مصر بأميركا خلال الستينات، وبدأ عبدالناصر مشروعه للهيمنة الإقليمية تحت مظلة القومية العربية ومحاربة الرجعية  والتي قصد بها الأنظمة الملكية والدينية . دخل النظام السعودي في حرب ضروس ضد ناصر: بالوكالة في اليمن وإعلاميا وشرعيا من خلال العلماء الذين كفروا علنا عبدالناصر والقومية العربية على صفحات الصحف. كما استضاف النظام السعودي الإخوان المصريين الهاربين من جحيم عبدالناصر.

ثم جاءت الطامة الكبرى في نهاية السبعينات بنجاح الخميني في الإطاحة بنظام الشاه وتبنيه أطروحة تصدير الثورة لخارج إيران، بالتوازي مع تمرد جهيمان العتيبي وجماعته على حكم آل سعود وسيطرتهم على الحرم المكي. مما دفع النظام السعودي لتكثيف جرعات التدين الرسمي، والتركيز على تصدير نموذج سلفي يشرعن الحكم الملكي مهما كانت تجاوزاته، ويضع الروافض على رأس أعدائه باعتبارهم أخطر من اليهود !!.

وعندما وقعت أحداث الغزو العراقي للكويت وما تلاها من تنامي معارضة بعض القطاعات الدينية السعودية لإقامة قواعد أمريكية دائمة بالمملكة، وما تبع ذلك من بزوغ تنظيم القاعدة الذي مثل السعوديون عموده الفقري، بدأ النظام السعودي تحت ضغوط غربية يخفف من جرعات التدين. فهى من خرج الجهاديون من رحمها بعد أن أدركوا حقيقة السياسات السعودية وتمردوا عليها.

عبر تلك المراحل كلها حرص النظام السعودي على تكسير عظام أي حركة إسلامية تصل للحكم أو تقترب منه، فدعم السعوديون الجيش الجزائري في انقلابه على نتائج الانتخابات وبطشه بجبهة الانقاذ، ودعموا “جون قرنق” في تمرده على حكومة الانقاذ بالسودان ، ودعموا السيسي في انقلابه على د. محمد مرسي وبطشه بجماعة الإخوان والإسلاميين. كما لعبت السعودية دورا رائدا في تدشين مشروع الصحوات بالعراق عام 2007 لإضعاف المقاومة العراقية ضد الغزو الأميركي.

القفز داخل القفص

أما ما يقوم به الأمير محمد ابن سلمان مؤخرا من خطوات جريئة  أوقف خلالها كبار أمراء العائلة المالكة وتحفظ على أموالهم،  فضلا عن سجن العديد من الدعاة والمفكرين والعلماء، فلا تعدو كونها إجراءات لبسط النفوذ واحتكار السلطة والثروة، وتقليص مساحة التدين في المجتمع. فمازال ابن سلمان يحافظ على أهم محددين في السياسة السعودية:

  • الحفاظ على مصالح القوى الكبرى وبالأخص أميركا، لذا قدم فروض الطاعة والولاء لترامب قبل تنفيذه لخطواته الداخلية الأخيرة، من خلال عقده لصفقات وعقود بمبلغ 350 مليار دولار مع أميركا، وبالمقابل دعم ترامب ممارساته الأخيرة علنا.
  • شن حرب تكسير عظام على الحركات الإسلامية التحررية والتغييرية تحت ستار مكافحة الإرهاب.

وبالتالي فإن من يتوهمون أن النظام السعودي سيتصدى فعليا لمشاريع الهيمنة الإيرانية يعيشون أحلاما وردية، لأن من يحطم عناصر القوة الموجودة في الأمة، ويبدد أوراق اللعب من يديه لا ينتظر منه أن يقود جهود الدفاع عن المسلمين

المصادر

جميع الاقتباسات من سلسلة ( الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية ” نجد والحجاز”) لنجدة فتحي صفوة- ط. دار الساقي.

 

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.