العدسة: محمد العربي

تصريحات رآها البعض صادمة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي احمد عن توقف عمليات بناء سد النهضة، وتأكيده في أكثر من مناسبة بأن مشروع السد ربما لا يري النور، وهي التصريحات التي أعقبتها قرارات لرئيس الوزراء الإثيوبي بإنهاء أعمال شركة “ميتنك” التابعة للجيش الإثيوبي والتي كانت معنية بتشغيل السد.

إلا أنه وبعد أقل من ثماني وأربعين ساعة كانت مظاهرات العاملين في السد تتصاعد من أجل الحصول على مستحقاتهم والمطالبة بزيادة رواتبهم وهو ما دعا رئيس الوزراء الإثيوبي باتخاذ قرار بوقف عمليات بناء السد لأجل غير مسمي.

هذا التطور الكبير في الأحداث الداخلية الإثيوبية يثير العديد من التساؤلات عن قرار آبي أحمد حول السد، وهل بالفعل كان المشروع خطئا منذ البداية أرادت من خلاله الحكومات السابقة تسكين الجماهير الغاضبة من تردي الأوضاع الاقتصادية، أم أن قرار رئيس الوزراء الإثيوبي يشير لصراعات داخلية طاحنة كان من نتائجها اللعب في أهم ملف اقتصادي وسياسي بالبلاد التي تشهد حالة من عدم الاستقرار منذ عامين، ورأت في رئيس وزرائها الشاب فرصة في تجاوز ما يعانونه من صعوبات.

الفلول في كل مكان

تشير التقارير السياسية المحلية والدولية التي تناولت تطورات الأحداث في البلد الإفريقي الهام أن ثمة خلافات داخلية ساخنة يعاني منها رئيس الوزراء الذي لم يكمل في منصبه ستة أشهر، وهي خلافات بعضها مرتبط بالحرس القديم للإئتلاف الحاكم الذي اختار آبي أحمد رئيسا للحكومة في مارس الماضي، وهو الصراع الذي كان من أهم صوره محاولة اغتيال رئيس الوزراء قبل شهرين، ثم مقتل المدير التنفيذي لسد النضهة، ومؤخرا عرقلة عمليات إنشاء وإدارة السد على يد شركة ” ميتنك” التابعة للجيش الإثيوبي، ومن هذه الأخيرة يمكن فهم كثير من الغموض الذي يكتنفه المشهد الإثيوبي.

وتشير دراسة لمركز البديل للدراسات السياسية أن النظام السياسي الإثيوبي يعاني من اختلالات بنيوية حادة خلفتها قرون متواصلة من التهميش السياسي والاقتصادي لبعض الجماعات، الأمر الذي أفرز اضطرابات سياسية متواصلة تكاد لا تنقطع، فالاضطرابات السياسية في أثيوبيا وصلت لمرحلة المطالبة بحق تقرير المصير لبعض الجماعات.

ورغم أن أديس أبابا تبنت نظرية الديمقراطية التوافقية في مرحلة ما بعد نظام منجستو لتحقيق العدالة بين الجماعات الإثنية المختلفة من خلال تمثيل الجماعات الإثنية في الزمرة الحاكمة عبر ائتلاف موسع من الأحزاب الإثنية مثل الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الأثيوبية التي تضم 4 أحزاب تعبر عن الجماعات الإثنية الأربع الرئيسية، بالإضافة لتشكيل الجبهة الثورية، اتبعت أثيوبيا نظاما فيدراليا متطرفا يتيح لكل جماعة أن تفرض سيطرتها على المناطق الخاضعة لها وفرض قوانينها الخاصة فضلا عن حقها في تقرير مصيرها.

وترى الدراسة أن أن هذه الصيغة السياسية التوافقية التي ابتدعها ميلس زيناوي بعد سقوط نظام منجستو لم تفلح في بناء نظام سياسي سليم يحقق التوافقية والعدالة بين الجماعات الإثنية المختلفة، حيث جرى إفراغ الفيدرالية الإثنية من مضمونها السياسي والقانوني عن طريق تغول السلطات المركزية للحكومة في أديس أبابا واحتكارها لكافة مصادر القوة، كما تحول الائتلاف الحاكم في أثيوبيا إلى ما يشبه كارتل سياسي بين مجموعة الأحزاب الإثنية المحتكرة للحياة السياسية الأثيوبية، هذا بالإضافة إلى احتكار حركة تحرير التيجراي المكون الرئيسي للائتلاف الحاكم لكافة موارد الدولة الاقتصادية والهيئات الحكومية الحساسة كالجيش والمخابرات.

صراعات النفوذ والبقاء

وطبقا لمسار الدراسة السابق الإشارة إليها فإن رئيس الوزراء آبي أحمد عمل على تصحيح الاختلالات البنيوية التي يعانى منها النظام السياسي والتي كان من أهمها سيطرة قومية التيغراي على الموارد الاقتصادية والمناصب الحساسة في الجيش، من خلال العديد من الإجراءات التي أخرجت الثعابين من جحورها ونقلت الصراع لسد النهضة باعتباره أهم ملف في البلاد.

حيث قام رئيس الوزراء في هذا الشأن بإبعاد الجيش عن السياسية عندما عيِن سيري مكونن قائدًا للقوات المسلحة خلفًا لسامورا يونس الذي خدم في الجيش الإثيوبي لأربعة عقود متصلة الذي ينتمي لـ “تيغراي”، كما عين قائد القوات الجوية آدم محمد، رئيسًا لجهاز الاستخبارات والأمن الوطني ليحل محل جيتاتشو أسافا الذي ينتمي لـ “تيغراي”، وبهذه الإجراءات فإن آبي أحمد بدأ في تفكيك سيطرة القادة العسكريين من قومية “تيغراي” على مفاصل السياسة الإثيوبية الداخلية والخارجية، لأكثر من عقدين.

وهو ما اعتبرته الـ “تيغراي” طبقا للمتابعين اجتثاثًا لجذورها واستهدافًا مباشرًا لحضورها القوي في مفاصل الدولة، ولذلك بدأت القومية التي سيطرت على مفاصل الحكم في العهود السابقة لعدة إجراءات لمواجهة تحركات التصفية التي يتبعها رئيس الوزراء الجديد، من أهمها تصدير المشكلات الداخلية، على أمل عودة التوتر الداخلي مرة أخري مما قد يدفع بالائتلاف الحاكم للبحث عن بديل لآبي أحمد، وفي هذه الحالة يمكن لـ “تيغراي” التحالف مع الأقليات الإثيوبية الأخرى لاختيار بديل له، وإن لم تفلح المحاولة فإنها قد تطالب بتقرير المصير كما ينص الدستور الإثيوبي الذي أعطى الحق لكل إقليم بالدعوة لتقرير مصيره إذا وجد ما يهدد وجوده، وفي هذه الحالة فإن الصراع سوف يغير الوضع الإثيوبي كليا.

ويرى المتابعون للشأن الإثيوبي أن ما أزعج قومية التيغراي هو توجه آبي أحمد نحو الخصخصة، وهو ما يضر بشكل مباشر بشبكات المصالح التي تنتمي غالبيتها لقومية التيغراي، خاصة في مجالات الطيران والطاقة وغيرهما، هذا بالإضافة للإجراءات الإصلاحية الداخلية التي قام بها رئيس الوزراء الشاب وخاصة فيما يتعلق بتفعيل المصالحة الداخلية، حيث قام بزيارة الأقاليم المختلفة في البلاد، والتي كان أولها إقليم الصومال، الذي ضمَّته إثيوبيا بعد حرب الأوغادين، والذي يعاني من اضطرابات سواء بسبب ممارسات الحكومة المحلية، أو بسبب الخلافات الحدودية مع إقليم الأورومو.

كما زار بلدة أمبو في أوروميا التي قلبت الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن منذ عام 2015 حيث تعهد بمعالجة المظالم. كذلك عمل على لقاء زعماء وقوى المعارضة المختلفة، والتي كانت ترفض التواصل مع سلفه “ديسالين”، بل كانت تقود الاحتجاجات في الأورومو وغيرها، ومن أبرز هؤلاء: ميرارا جودينا، رئيس حزب مؤتمر الأورومو الفيدرالي، وبيكيلي جيربا، الأمين العام للحزب، وغيرهم ورفع تهمة الارهاب عن ثلاثة حركات مسلحة وهي g7 وonl، وolf.

وفي إطار نفس السياسة أطلق سراح المعارضين والتزم بتوفير ضمانات للمعارضين في الخارج؛ الأمر الذي دفع لينشو ليتا رئيس “جبهة أورومو الديمقراطية” الإثيوبية المعارضة، و44 من قيادات الجبهة إلى العودة إلى أديس أبابا، وذلك بعد سنوات قضوها بالمنفى، كما رفع القيود عن الإعلام، ورفع الحظر المفروض على العديد من المواقع الإخبارية، وهو ما كان من أهم نتائجه إعلان المعارضة الإثيوبية في إريتريا التخلي عن المقاومة المسلحة وتعليق أنشطتها العسكرية.

إزعاج الإصلاحات

وطبقا للمحللين فإن هذه الإصلاحات الداخلية والتي كان لها مثيل في العلاقات الخارجية لإثيوبيا التي أنهت صراعا متأزما مع إريتريا استمر لعشرين عاما، كما أنهت مشاكل أخري مع السودان وجنوب السودان ومنحت العلاقات مع مصر مسكنا قويا بعد أن كادت الأمور تصل للحرب على يد الحكومة التي سبقته، فإن كل هذا أزعج مراكز القوي التي كانت تسطير على مفاصل الحكم طوال عهدي “ميلس زيناوي وهايلي ديسالين”.

ويري هذا الفريق من المحللين أن عمل آبي أحمد في الجيش والمخابرات الإثيوبية، ثم عمله في اللجنة التنفيذية للائتلاف الحاكم، جعله يعلم جيدا مراكز القوة والضعف لدي أنصار قومية الـتيغراي، مما جعل الصراع ينتقل من باطن الأرض لسطحها بعد فشل عملية اغتياله في يونيو الماضي.

لماذا السد

ويبدو السؤال الملح هو لماذا انتقل الصراع لسد النهضة ولم ينتقل لخلافات مسلحة أو مظاهرات على سبيل المثال، وقد أجاب على هذا التساؤل العديد من الدراسات التي تناولت أهمية السد لدي الشعب الإثيوبي خاصة وان رئيس الوزراء الأسبق ميلس زيناوي، استخدم هذا المشروع لرفع سقف آمال الإثيوبيين وتوحيد صفوفهم القومية والإثنية والدينية طوال فترة حكمه، من أجل تحقيق حلم السد، وبالتالي فإن توقف المشروع أو فشله معناه انهيار هذا الحلم، وضياع كل فرص النهضة وتخطي حاجز الفقر الذي يعيش فيه الشعب الإثيوبي، وفي المقابل فإن نجاح المشروع سيدفع برئيس الوزراء لقمة السلطة، بل إن قوة الدفع التي سيحظي بها ربما تزيد على ما كان يتمتع به الزعيم ميلس زيناوي نفسه، ومن هنا كان السد هو محور صراع كل طرف على أمل أن يحظي بدعم الشعب الإثيوبي ضد الطرف الآخر.