لم تظن دولة الاحتلال الصهيوني أن تأتيها الصفعة مدوية من مبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف في وقت يتصاعد فيه تطبيعها السافر في المنطقة العربية ولكن جاءت الصفعة مؤلمة عبر تقرير يوثق ارتكابها جرائم حرب في إدانة أممية وصفت حقوقيا بالكبرى.
“العدسة” يرصد أبعاد التقرير الأممي و ردود الأفعال والاحتمالات المتاحة لتفعيل الملاحقة الدولية المترتبة على الإدانة الأممية فضلا عن العراقيل الراجحة، والتي يبدو أن منها رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته محمود عباس وفريقه الذي اكتفى بالمناشدات رغم أن في يده أكثر وفق المراقبين .
تقرير مهم
اللجنة الأممية المستقلة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في مايو 2018 للتحقيق في جرائم الاحتلال ضد مسيرات العودة قالت كلمتها بشكل يدين الكيان الصهيوني جملة وتفصيلا.
اللجنة قالت كلمتها واضحة : “إن لدينا أسبابا معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن الجنود الإسرائيليين ارتكبوا انتهاكات لقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، قد يصل بعضها إلى جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، أثناء مظاهرات مسيرة العودة الكبرى”.
ووفق مراقبين جاءت التعبيرات في التقرير الأممي الصادر دقيقة بالشكل الكافي حيث أضافت اللجنة أن أكثر من 6000 متظاهر أعزل تعرضوا لإطلاق الرصاص من القناصة العسكريين، أسبوعا بعد الآخر في مواقع الاحتجاجات عند السياج الفاصل، كما وجدت اللجنة أن قوات الأمن “الإسرائيلية “قتلت 183 من هؤلاء المتظاهرين برصاص حي من بينهم 35 طفلا، بالإضافة إلى 3 مسعفين وصحفييْن اثنين كانوا يرتدون شارات تدل بوضوح على مهنهم، كما تسببت تلك القوات في إصابة أكثر من 6000 فلسطيني في مواقع الاحتجاج بالرصاص الحي، كما أصيب حوالي 3000 بشظايا أعيرة نارية، والرصاص المعدني المغلف بالمطاط أو عبوات الغاز المسيل للدموع.
الأهم في تقرير اللجنة بحسب البيان الرسمي الصادر كان في تصريح عضوة اللجنة بيتي مورونجي الذي كشف عن أن اللجنة الأممية ستعد ملفا سريا يحتوي على كل المعلومات ذات الصلة لتقديمه إلى مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لإطلاع آليات العدالة الوطنية والدولية عليه مؤكدة ” أن المحكمة الجنائية الدولية على اضطلاع بهذا الأمر”.
سعادة مقابل انزعاج
وجاءت ردود الأفعال تثبت الأهمية الكبيرة للتقرير الصادر عن لجنة التحقيق الأممية وفق ما هو مرصود، فبينما سيطرت الفرحة على الفلسطينيين كان الإزعاج سيد الموقف في مبنى حكومة الاحتلال
ففي المعسكر الفلسطيني طالبت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بمحاسبة دولة الاحتلال الصهيوني بعد تحقيق الأمم المتحدة حول غزة، وفق تصريح القيادي بالحركة باسم نعيم الذي حفز المجتمع الدولي على التحرك بجدية نحو “محاسبة المحتلين على جرائم الحرب التي يواصلون ارتكابها ضد الفلسطينيين”.
خالد البطش، المنسق العام للهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار ثمن بقوة التحرك الأممي ، واصفا تقرير الأمم المتحدة بـ”الخطوة الجيدة التي أسعدت الناس في قطاع غزة التي استطاعت أن تسجل إنجازا جديدا على المستوى الميداني والسياسي “، لكنه قال كذلك في تصريحات له : “ترجمة الإدانة وخطوات الأمم المتحدة على أرض الواقع واتخاذ إجراءات عقابية وآليات عمل حقيقية بحق دولة الاحتلال ومحاكمة قادتها المجرمين ووقف القناصة وكسر الحصار سيفرح الناس أكثر”.
في هذا السياق قال رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته محمود عباس : إن ما كشفت عنه اللجنة يثبت “ما نقوله دائما من أن إسرائيل ترتكب جرائم حراب ضد شعبنا”، وحث عباس المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي على “التحرك الفوري” وفتْح تحقيق شامل.
وفي المعسكر المعادي كان رد الفعل كاشفا عن انزعاج بالغ ، حيث زعم رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أن تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع ينطوي على الأكاذيب والكراهية لدولة الاحتلال مؤكدا رفضه جملةً وتفصيلاً، وحاول التشويش على التقرير قائلا وفق بيان متداول لمكتبه : “المجلس سجل أرقاما قياسية جديدة بما يتعلق بالنفاق وبالأكاذيب وهو يعمل بناءً على كراهية مهووسة لإسرائيل وهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” دون أن يوضح ما علاقة الديمقراطية بجرائم الحرب التي ارتكبت ووثقت أمميا!، كما أبدى القائم بأعمال وزير الخارجية الصهيوني يسرائيل كاتس، رفضه لهذه الاتهامات ووصف اللجنة الأممية بأنها “كاذبة ومنحازة”بحسب مزاعمه!.
هل يمكن ذلك ؟
ويبقى السؤال القديم الجديد في ظل هذا التقرير الموثق : “هل يمكن محاكمة قادة الكيان الصهيوني على تلك الجرائم ؟.
الإجابة بحسب رئيس اللجنة الأممية الأرجنتيني سانتياجو كانتون الذي قال في تصريحات عقب نشر تقريره “: “المسؤولية الآن تقع على إسرائيل في أن تحقق بشأن كافة الوفيات والإصابات المرتبطة بالتظاهرات، تحقيقا فوريا محايدا مستقلا ملتزما بالمعايير الدولية لتحديد ما إذا كانت جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية قد ارتُكبت، وذلك تمهيدا لمحاسبة المسؤولين”.
ولكن البعض يرى أن الكرة في ملعب السلطة الفلسطينية الحالية لاستغلال هذا التقرير وتقديم ملفات قادة الاحتلال للمحاكم الجنائية لمحاسبتهم فيما كشفت الهيئة الوطنية لمسيرات العودة عن أن لجنتها القانونية ستخوض جهود كبيرة لإيصال هذا التقرير للعالم وتشكيل جبهة ضغط دولية وعربية وفلسطينية بتلك الورقة الجديدة.
عضو الفريق القانوني في الهيئة الوطنية لمسيرات العودة، يوسف المدهون، يرى ذلك مؤكدا أن الخيارات الفلسطينية مفتوحة في الجانب القانوني والسياسي، فيمكن أن تتوجه القيادة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية وتطالب بفتح تحقيق وتوجيه الادعاء العام لإدانة قادة الاحتلال الذين ارتكبوا المجازر بحق المدنيين العزل.
وكان أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، وعد في أبريل 2018 بتقديم ملفات مجرمي الحرب الصهاينة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من الهيئات الأممية لكن لم يحدث شيئا من هذا القبيل بعد، وهو ما تكرر من وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي في يونيو 2015 حيث تعاهد بتقديم وثائق للمحكمة الجنائية الدولية دون أن يحدث شيئا كذلك حتى تاريخه.
منظمة “هيومن رايتس ووتش” بدورها ، بادرت في العام 2016 مع دخول الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية وغزة عامه الـ 50، ودعت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق رسمي في الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في فلسطين بما يتفق مع “نظام روما الأساسي” المنشئ للمحكمة نظرا لجسامة العديد من الانتهاكات ونظرا للمناخ السائد للإفلات من العقاب على هذه الجرائم، ولكن تجاهلت المدعية مبادرة الملاحقة تلك دون سبب واضح.
يمكن البناء عليه
وبحسب مراقبين فإن “اللافت في تقرير الأمم المتحدة هذه المرة أنه استند إلى وقائع وأحداث على الأرض من خلال متابعتها من قبل محققين تابعين للأمم المتحدة وجميعهم من الأجانب وليس بينهم فلسطينيًا واحدًا، حيث قاموا بتوثيق عدة حالات أظهرت استهداف القوات الصهيونية للأطفال والنساء والشيوخ برصاص محرم دوليًا وفق تقارير الأمم المتحدة”.
وبحسب الكاتب والمحلل علي قباجه فإن التقرير الأممي يمكن البناء عليه، فانتهاكات الاحتلال ضد الإنسانية لم تقتصر على مسيرات العودة، إذ إن فصول التنكيل طالت الفلسطينيين في مجالات شتى، لذا فإن نتائج هذا التحقيق لا بد أن توضع أمام القضاء الدولي، ليقول كلمته، ويدين الاحتلال، ويتخذ إجراءات رادعة ضد الجرائم المتواصلة خاصة أن التقرير صادر عن الأمم المتحدة، بما له من رمزية خاصة كونها منظمة دولية ينتمي إليها العالم أجمع، وعادة ما تتميز تحقيقاتها بالصدقية، كما أن محققيها يعتد بهم.
وفي حال عدم النجاح في خطوة الملاحقة القانونية الدولية فورا يذهب مراقبون إلى دعوة الفلسطينيين إلى استغلال تقرير اللجنة على الصعيد الخارجي لفضح حقيقة الكيان الصهيوني بالتزامن مع تحرك جامعة الدول العربية والعرب للحشد السياسي والإعلامي لإظهار عدوانية الكيان الصهيوني في كل محفل خاصة أن دولة الكيان الصهيوني تواجه محكمة الجنايات الدولية بعدم المصادقة على معاهدتها بجانب استخدام الولايات المتحدة حق النقض الفيتو 34 مرة ضد قرارات تلزم وتدين الاحتلال الصهيوني.
اضف تعليقا