العدسة – ياسين وجدي:

قرارات مفاجئة في ساعات مبكرة من يوم سبت قد يبدو فاصلا ، تناقض ما ذهبت إليه السعودية مع بداية الأزمة مع بدء إخفاء الصحافي الكبير جمال خاشقجي في مبنى قنصليتها بتركيا في الثاني من أكتوبر الجاري.

الآن “خاشقجي” بحسب الرواية السعودية ارتقى للسماء، شهيدا وشاهدا ، ولكن غير معروف حتى تاريخه ، أكان الارتقاء بالروح فقط أم بالجسد والروح معا ، أم أن المملكة لازالت تصر على الاستهتار بعقول الغرب والشرق في مسرحية زائفة نكشف فصولها في سياق هذا التقرير.

المسرحية السعودية !

قرارات منتصف الليل التي أصدرها العاهل السعودي ، كشفت فصول المسرحية السعودية الأمريكية ، بوضوح ، وفضحت في ذات الوقت الجريمة وأركانها من حيث لا يحتسب بحسب مراقبين عديدين ، ولعلها “لعنة دماء خاشقجي” بحسب أصدقائه .

 

إنهم “قتلة مارقين” بتعبير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، وفي ضوءه سارت المسرحية السعودية الأمريكية بحسب وصف البعض  كمحاولة أخيرة للخروج من عنق زجاجة قتل خاشقجي، وجرت باتفاق بين محمد بن سلمان وترامب لتمريرها من خلال البوق الأمريكي المتمثل في الرئيس بنفسه ، الذي أوفد وزير خارجيته بومبيو للرياض لإنهاء حبكة هذا السيناريو الزائف.

كبش الفداء بحسب سيناريو المسرحية اقتضى من العاهل السعودي أن يجعل كبار جهاز الاستخبارات العامة كبش الفداء بالعزل والإعفاء ، لكنه اختار شخصيات معينة لها رصيد قوي في التأكيد على عملها طبقا لتعليمات الملك وولي العهد ما كشف السيناريو أكثر بالتزامن مع فرض حماية بالتضليل لابنه بالإشراف على الجهاز الذي نفذ الجريمة ، ثم أعلن أنه أوقف 18 شخصا رهن التحقيق ، الذين أسماهم ترامب بداية “قتلة مارقين ” دون معرفة موقع الجثة حتى تاريخه.

رائحة الزيف أعلى من الحبكة ، إذن ، وهو ما رأه دبلوماسيون أمريكيون سابقون توقعوا قبل الإعلان أن أمريكا والسعودية توصلتا إلى حل وسط ولكنه غير منطقي حتى تخفف وطأة المعارضة القوية داخل أمريكا، وهي العملية التي وصفها الكاتب الصحفي عبد الباري عطوان، بأنها نموذج جديد لقضية لوكربي والصفقة التي جرى التوصل إليها لإنقاذ العقيد معمر القذافي ورفع الحصار الخانق عن ليبيا.

عملية تستر

ويرى البعض أن اختيار العاهل السعودي لمن يتحمل المسئولية السياسية والجنائية للجريمة  فاضح لمن أصدر القرارات وعملية تستر واضحة للعيان.

 

فسعودي القحطاني، يعمل مستشارا في الديوان الملكي برتبة وزير كشف في تغريدات سابقة له أنه لا يعمل بدون إذن وقرار من الملك ونجله وولي العهد ، كما أن  نائب رئيس الاستخبارات العامة أحمد عسيري مقرّب من ولي العهد ويحضر اجتماعاته مع المسؤولين الزائرين للمملكة، وكان يتولّى منصب المتحدّث الرسمي باسم التحالف العسكري الذي تقوده المملكة في اليمن.

وتكشف أسماء ووظائف من صدر قرارات لهم بالإعفاء وهم مساعد رئيس الاستخبارات العامة لشؤون الاستخبارات اللواء الطيار محمد بن صالح الرميح، ومساعد رئيس الاستخبارات العامة للموارد البشرية اللواء عبدالله بن خليفة الشايع، ومدير الإدارة العامة للأمن والحماية برئاسة الاستخبارات العامة اللواء رشاد بن حامد المحمادي.تكشف إلى جانب وظائف ومهام عسيري والقحطاني، صحة الروايات التركية المسربة عن الضباط المشاركين في عملية القتل ، وجاءت في سياق العقاب على فشلهم في إتمام المهمة بنجاح كجهاز استخباراتي ، بحسب وصف مراقبين ونشطاء تواترت سخريتهم على مواقع التواصل الاجتماعي من ضعف قدرات جهاز الاستخبارات، والتي دفعت صحيفة واشنطن بوست لوصف الأمير محمد بن سلمان بالقاتل الغبي.

وفي هذا السياق تحدث المغرد الشهير “مجتهد” عن أهمية الربط بين القحطاني وبن سلمان بناء على اعترافات الأول على حسابه الرسمي على تويتر ، وقال مجتهد : “سعود القحطاني أعلن بشكل صريح هنا في التويتر أنه لا يتصرف إلا بتوجيه من محمد بن سلمان، فإذا كان ابن سلمان يحمله مسؤولية المساهمة في قتل خاشقجي فعليه أن يعترف أنه قد كلفه بذلك، وانشروا هذه التغريدة بكل لغات العالم”.

 

تغطية الوكالات الأجنبية كانت متوازية في نفس المضمون مع ما ذكره “مجتهد”، ما يجهض المسرحية السعودية الأمريكية في مهدها ، وفي هذا الإطار قالت وكالة الأنباء الفرنسية :” القحطاني يعرف عنه هو أيضاً قربه من ولي العهد، وقد ظهر برفقته في صور مع ملوك ورؤساء نشرها على حسابه بتويتر حيث يكتب تغريدات غالباً ما تكون هجومية”.

 

السيناتور الديمقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي ، كريس فان هولن، من جانبه وصف  البيان السعودي صراحة بأنه عملية تستر، وقال في تصريحات له :” ينبغي ألا تكون الولايات المتحدة شريكا في عملية التستر هذه. نتطلع إلى ما ستقوله أجهزة مخابراتنا”.

وفي ذات المسار تحدث منتقدا عملية التستر ، السيناتور الأمريكي الجمهوري المقرب من ترامب ، ليندسي جراهام ، والذي لم يسكت هذه المرة أيضا ، وقال في تغريدة على تويتر : “في البداية أبلغونا أن السيد خاشقجي غادر القنصلية وأن هناك نفيا قاطعا لأي تورط سعودي، والآن أن مشاجرة اندلعت وأنه قُتل في القنصلية، وكل هذا بغير علم ولي العهد .. يصعب تصديق هذا التفسير “!!.

وتبقى مشكلة السعودية بعد هذه الإجراءات بحسب البعض أن الجريمة كلها لم ترتكب على كامل الأراضي السعودية (القنصلية) وإنما امتدت إلى الأراضي التركية في إخفاء الجثة ، بما يجعلها من اختصاص القضاء التركي.

 لجنة باشراف المتهم !

ومن أبرز السقطات الفجة لقرارات العاهل السعودي بحسب مراقبين هي قراره  بتشكيل لجنة وزارية برئاسة الأمير محمد بن سلمان، لإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات العامة وتحديد صلاحياته، بناء على توصية من ولي العهد نفسه !!

 

القرار يأتي متناقضا ليس مع الاتهامات الموجهة لولي العهد بالتورط في القتل ضمنيا أو الاشراف عليه ، بل يأتي فاضحا لفشل جديد للأمير محمد  بن سلمان الذي قال بثقة مبالغ فيها في مقابلة مع وكالة بلومبرغ حول خاشقجي : “ما أعرفه هو أنه دخل وخرج بعد دقائق قليلة أو ربما ساعة. أنا لست متأكّداً”.

كما أن القرار يأتي كعملية تبييض وجه بائسة بحسب البعض ، الذي يرى أنه لا شيء سيطمس في النهاية حقيقة أن ولي العهد السعودي أصيب في مقتل في صورته الدولية، وأن ما لحق به من اتهامات مشينة، صحت تماماً أم لم تصح، ستظل تلاحقه كظله فإما أن تزيحه من موقعه أو تبقيه فيه ضعيفاً منهكا.

ويرى البعض أن هذه العملية لن تنجح في تبيض وجه محمد بن سلمان خاصة أن دوائر صنع القرار الغربية لديها معلومات موثقة ، عن اتصالات أجراها  الأمير محمد بن سلمان لطلب مساعدة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد؛ لمحاولة الخروج “المشرّف” من أزمة اختفاء خاشقجي، واتفاقهما على “تقديم أكباش فداء”.

مصير “أبو منشار”!

ورغم محاولة ملك السعودية حماية نجله الذي بات يوصف في الأوساط الدولية بـ” أبو منشار” ، لكن يرى البعض أن الخطر مازال يتهدد المملكة بسبب سياسيات الابن الجامحة والتي تسببت في توريط المملكة في اليمن في جرائم حرب ، وعمليات مافيا في القنصلية السعودية في تركيا فضلا عن العديد من الجرائم الموثقة ضده وضد المملكة .

 

 

الحل قدمه عضو مجلس الشيوخ الاميركي ليندسي غراهام الذي دعا السعوديين لاختيار بديل عن ولي العهد الحالي محمد بن سلمان بعد أن لطخ اسم بلاده وأحرج الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمدافعين عن السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية .

وهو ماذهب إليه المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إي” جون برينان الذي قدم نصيحة ذهبية للمملكة ، وهو ينتقد أخطاء ولي العهد محمد بن سلمان وصرح مساء الخميس قائلا :”إن السعودية ما كانت لتواجه المأزق الحالي لو كان محمد بن نايف بموقع المسؤولية”.

كبير باحثي الشرق الأوسط والأمن القومي في مجلس شيكاغو للشؤون الدولية،الدبلوماسي الأمريكي السابق، الدكتور نبيل خوري، يرى أن محمد بن سلمان “خسر معركة الرأي العام والتي كلفته الملايين كي يلمع صورته الشخصية وصورة السعودية، خاصة في واشنطن”، كما أنه سيدفع أبيه الملك سلمان للإقرار بأن وضعه لابنه في هذا المنصب الرفيع ربما يكون تصرفاً سابقاً لأوانه، وهو الأمر الذي له ما بعده.