منصور عطية

بطبيعة الحال، فإن الحديث عن “الجزائر” هنا – في معرض الحديث عن مستقبل الحكم في البلاد – لا يعني خيار الشعب هناك، بقدر ما يعني قرار المتصارعين على الحكم في بلد المليون شهيد.

ويبدو أن “تلك” الجزائر قد حسمت خيارها باستمرار الرئيس المقعد على كرسي متحرك منذ سنوات “عبدالعزيز “بوتفليقة”” رئيسًا للبلاد لولاية خامسة في الانتخابات المقررة العام المقبل، لتضع حدًّا لجدل تصاعد في الآونة الأخيرة حول حالته الصحية وقدرته على تولي مهام الحكم من ناحية، وطبيعة الصراع على كرسي الرئاسة من ناحية أخرى.

ظهور يحسم الجدل

في ظهور نادر، دشن “بوتفليقة”، أمس الاثنين، مشروعًا لمترو العاصمة، وافتتح مسجد كتشاوة التاريخي العثماني، بمساهمة تركية بعد عملية ترميم شاملة دامت 4 أعوام.

وعلى طريقة نظم الحكم العربية، ظهر العشرات من الجزائريين الذين اصطفوا لتحية الرئيس وكأنما تم حشدهم بشكل مسبق لاستقبال الرجل الذي لا يظهر في العلن إلا نادرًا منذ تعرضه لجلطة دماغية عام 2013 أفقدته القدرة على الحركة وربما الكلام.

واكتفى الرئيس في المقطع الذي تداولته وسائل إعلام جزائرية بالتلويح لمسقبليه عدة مرات، بينما تجمع حوله الحرس الخاص والشخص المنوط به قيادة كرسيه المتحرك.

اللافت، أن هذا الظهور يأتي في أعقاب إعلان “جمال ولد عباس” الأمين العام لجبهة التحرير الوطني (حزب السلطة الأول) ترشيح “بوتفليقة” لولاية رئاسية خامسة، الأمر الذي أثار عاصفة من الجدل لم تهدأ.

الربط بين الحدثين؛ الإعلان والظهور، يشير إلى أن ثمة رسالة أراد “بوتفليقة” ومنظومة حكمه توصيلها للجميع، مفادها أن النظام حسم أمره بشأن الولاية الخامسة للرجل، ولم يعد هناك مجال لترديد الشائعات أو استمرار الجدل.

ولعل هذا يستدعي تصريحات “فاروق قسنطيني”، الرئيس السابق للجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في الجزائر قبل أشهر، حين قال إنه لمس رغبة الترشح لدى “بوتفليقة”، خلال لقاء جمعهما، مضيفًا: “الرئيس “بوتفليقة” أعرفه جيدًا ويريد أن يبقى في خدمة بلده إلى أن يتوفاه المولى عز وجل، فهذا طبعه خدوم، ويبقى تحت تصرف وطنه”.

كما أن المرة الأولى التي يجاهر فيها الحزب الحاكم بترشيح “بوتفليقة” لولاية رئاسية خامسة، وما تلاه من ظهور نادر له يدخل في إطار جس نبض الشارع والساحة السياسية، بشأن إعادة انتخابه.

“سفيان جيلالي” رئيس حزب “جيل جديد” المعارض، قال إن إعلان “ولد عباس” يدخل في إطار عملية تمرير فكرة الولاية الخامسة وتسويقها بالتقسيط المريح، وإن النظام يتجه رأسًا إلى هذا الخيار على اعتبار أن البحث عن بديل لـ”بوتفليقة” قد يُدخل النظام في تناقضات وصراعات قد تؤدي إلى نهاية النظام نفسه.

واعتبر، في تصريحات صحفية، أن خيار الولاية الخامسة ينطوي على مخاطر عدة في ظل الأوضاع التي تعيشها البلاد، أبرزها الوضع الصحي الحرج للرئيس الذي لم يخاطب شعبه منذ 6 سنوات، والأزمة الاقتصادية بسبب انهيار أسعار النفط، وما نتج عن ذلك من احتقان اجتماعي وحركات احتجاجية متكررة في عدة قطاعات، على حد قوله.

خريطة الصراع العلني

ولعل الصراع الدائر حول خليفة “بوتفليقة” خرج إلى العلن بين رئيس الحكومة أحمد أويحيى، و”سعيد” شقيق الرئيس بعد إلغاء الرئاسة اتفاقًا وقعته الحكومة مع هيئة تمثل “الكارتل المالي” – وهو تكتل اقتصادي يضم مستثمرين ورجال أعمال كبار – واتحاد العمال يقضي بفتح رأس مال لشركات ومؤسسات اقتصادية عمومية لصالح رجال الأعمال المستثمرين من القطاع الخاص “الخصخصة”.

وأصدرت رئاسة الجمهورية التي يسيطر عليها شقيق الرئيس تعليمات عاجلة موجهة إلى “أويحيى” والوزراء لمطالبته بوقف تنفيذ كل قرارات الحكومة، الأمر الذي أزاح الستار عما يمكن أن نسميه “حكومة ظل” في رئاسة الجمهورية تعارض مسار حكومة “أويحيى” وتتدخل في قراراتها، على خلفية صراع يرتبط بالانتخابات الرئاسية.

مسؤولون قالوا: إن “الرئاسة استشرفت وجود نوايا غير سليمة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من الطريقة التي سيرت بها الحكومة تصفية مؤسسات اقتصادية عمومية، خصوصًا بعد ورود تقارير عن وجود صفقات بين الحكومة ومستثمرين بعينهم للفوز بالحصة الأكبر من الأسهم في مؤسسات عمومية”.

تقارير إعلامية، وصفت ما يواجهه “أويحيى” الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الشريك الثاني في الحكومة بعد حزب “بوتفليقة”، بأنه حملة لتقليم أظافره في إطار محاولات قطع الطريق أمامه للترشح وخلافة “بوتفليقة”.

في أكتوبر الماضي، وقعت 3 شخصيات جزائرية، على بيان يطالب بعدم ترشح “بوتفليقة”، البالغ من العمر 80 عامًا، لولاية خامسة داعين الجيش للإمساك بزمام الأمور، إلا أن موقف الجيش الجزائري كان حاسمًا، وهو ما أكده رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح، الذي كرر 3 خطابات ألقاها أمام عسكريين، خلال عام 2017، بالتزام مؤسسته بالدستور، والخضوع لقائده الأعلى “بوتفليقة”.

ورغم أن المؤسسة العسكرية في الجزائر كانت توصف دومًا بأنها “صانعة الرؤساء”، وهو ما حدث مع “بوتفليقة” نفسه عام 1999، إلا أن الرجل تمكن في فترته الثانية من إحكام السيطرة على الجيش تجلت في تقديم الفريق “محمد العماري”، رئيس أركان الجيش الجزائري، في أغسطس 2004، استقالته رسميًّا، ليعين “بوتفليقة” قائد القوات البرية الفريق “أحمد قايد صالح” خلفًا له، ويبسط سيطرته المطلقة على المؤسسة الأمنية بإقالة الفريق “محمد مدين” في سبتمبر 2015، الذي استلم رئاسة جهاز المخابرات العسكرية منذ 1990، ويقوم بتعيين اللواء “بشير طرطاق” مكانه، وهو أحد مستشاري “بوتفليقة” للشؤون الأمنية.

حصاد حكم مهندس المصالحة الوطنية

وصل “بوتفليقة” إلى الحكم بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 1999 بنسبة 90,24 % من الأصوات، ثم أعيد انتخابه في 2004 و2009، بعد أن أجرى تعديلًا دستوريًّا ألغي تحديد عدد الولايات الرئاسية باثنتين، ثم ترشح لولاية رابعة عام 2014 وأُعيد انتخابه.

ولد الرئيس الجزائري بمدينة وجدة المغربية عام 1937، وهو من أصول أمازيغية، وبدأ في العمل السياسي وهو في الـ19 من عمره، وبعد الاستقلال في 5 يوليو 1962 تقلّد منصب وزير الشباب والرياضة والسياحة في أول حكومة للرئيس أحمد بن بلة (1962-1965).

ولم يمنع سنه الصغير (26 سنة) وقامته القصيرة وجسمه النحيف من تعيينه وزيرًا للخارجية خلفًا لمحمد خميستي الذي اغتيل أمام المجلس الوطني (البرلمان) في 11 إبريل 1963، وبقي في هذا المنصب 16 عامًا إلى ما بعد وفاة الرئيس “هواري بومدين”.

نال لقب “مهندس المصالحة الوطنية” التي وضعت حدًّا لحرب أهلية استمرت 10 سنوات منذ 1991 وحتى 2001، وأسفرت عن سقوط نحو 200 ألف قتيل.

في عامه الأول بالرئاسة قدم “بوتفليقة” قانون الوئام المدني للاستفتاء الشعبي ثم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في 2005، وهو ما سمح بإطلاق سراح آلاف الإسلاميين من السجون وإلقاء السلاح بالنسبة لآلاف آخرين، والعودة إلى الحياة الطبيعية مقابل “العفو عنهم”.

وكادت رياح “الربيع العربي” أن تصل إلى الجزائر، في 2011، بعد أن مرت على تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، إلا أن “بوتفليقة” أعلن رفع حالة الطوارئ بعد 19 عامًا من فرضها، كما أعلن إصلاحات سياسية واقتصادية كبح فيها جماح التظاهرات التي بدأت في الاندلاع ببلاده.

وفي أبريل 2013 أُصيب الرئيس الجزائري، بجلطة دماغية استدعت نقله إلى العاصمة الفرنسية باريس لتلقي العلاج، عاد بعدها بثمانين يومًا على مقعد متحرك، وتوالت بعدها رحلاته العلاجية.

في أبريل 2016 نشر مركز “كارنيجي للشرق الأوسط”، دراسة بعوان “الجزائر على حافة الهاوية: ماذا حقّقت الأعوام السبعة عشر من حكم “بوتفليقة”؟”، ألقت الضوء على حصاد سنوات حكم الرئيس الجزائري.

وعلى الرغم من الإيجابيات التي عددتها الدراسة، فيما يتعلق بدور “بوتفليقة” في النضال من أجل التحرر من المستعمر الفرنسي، وقيادته جهود المصالحة الوطنية فور تسلمه الرئاسة لأول مرة وبعد 10 سنوات من الحرب الأهلية، وملامح السياسة الخارجية التي أعاد لها دورها، غير أن الغموض لا يزال يحيط بمستقبل بلد المليون شهيد.

التقرير قال: إن “”بوتفليقة”، الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه يبعث الأمل في نفوس الملايين من الجزائريين، يُعتبر اليوم الرجل الذي لطّخ سمعة الجزائر”، ولعل أبرز ما قام به في هذا الصدد، وفق الدراسة، تعديل الدستور حتى يتمكن من الترشح لمنصب الرئاسة متجاوزًا الفترتين الرئاسيتين المقررتين في الدستور ليبدأ فترته الرابعة عام 2014.

كما تستر الرجل على الفساد في المستويات العليا، وأيد القوانين التي أضعفت المجتمع المدني، وبمزيج من القمع والهبات السخية بفضل ثروة النفط والغاز في الجزائر نزع فتيل احتجاجات عام 2011 التي أشعلت ثورات الربيع العربي في دولتين مجاورتين للجزائر، هما ليبيا وتونس.

كما أن عدم وجود آلية لتقاسم السلطة بين جميع الأطراف ذات الصلة (أي بين الأحزاب السياسية، والمعارضة، والمجتمع المدني، والسلطتين التشريعية والتنفيذية)، ووجود صراعات داخلية في النظام، يجعلان من الصعب تصور إمكانية تجديد النظام السياسي في الجزائر، بحسب “كارنيجي”.

وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد نتيجة انخفاض عائدات ثروتها من النفط والغاز، بسبب انخفاض أسعارهما عالميًّا منذ 4 سنوات، إلا أن “بوتفليقة” جعل بلده تتصدر قائمة مشتري السلاح في إفريقيا، بصفقات وصلت قيمتها لنحو 10 مليارات دولار في عام 2014.