العدسة – مؤيد كنعان
ما هو سر التصعيد الروسي المفاجئ في سوريا للدرجة التي تدفع وزير خارجية موسكو للخروج والحديث علنا بأن بلاده ترى الوجود الإيراني في سوريا “شرعيا”، وأن روسيا لم تتعهد من قبل بإخراج “الميليشيات الإيرانية” من سوريا؟
هل تحاول موسكو الرد على استمرار التصعيد الأمريكي في ملف تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي جعلت من علاقة الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين “علاقة حرجة”؟
هل تريد موسكو أن تعبر عن حالة غضب استراتيجية تراها مهمة بسبب تجاهلها التام خلال التنسيق بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي أنتجت تصعيدا إقليميا كبيرا بدأ بمنطقة الخليج، والآن يمتد للمثلث الشامي، الذي ترى فيه روسيا الآن منطقة نفوذ خاصة لها؟
من المهم طرح هذه الأسئلة والبحث عن أجوبة لها في سياق تحليل تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الثلاثاء نوفمبر، في مؤتمر صحفي بالعاصمة موسكو، والتي أكد فيها أن بلاده لم تتعهد بضمان انسحاب القوات الموالية لإيران من سوريا.
قنبلة دخان
لافروف خلال التصريحات ألقى ما يشبه قنبلة دخان حينما قال إن الاتفاقات بين الولايات المتحدة وروسيا فيما يخص الملف السوري تحدثت فقط عن إنشاء منطقة لخفض التوتر، وإخراج “تشكيلات عسكرية غير سورية” منها، لكن – والكلام لوزير الخارجية الروسي – لم يتطرق إلى موضوع إيران أو بالأخص قوات موالية لإيران.
من واقع التصريح السابق، هل تعتبر روسيا الميلشيات الإيرانية في سوريا تشكيلات تابعة للحكومة السورية؟
قد يفك الغموض قليلا ما قاله “لافروف” بعد ذلك بأن التواجد الإيراني جاء بدعوة وطلب من حكومة دمشق، وبالتالي فإن ميليشيات طهران ليست تشكيلات غير سورية في نظر موسكو، أو هكذا أرادت أن توصل رسالتها التصعيدية.
الوزير الروسي أضاف: “إذا نظرنا إلى من يمثل أكبر خطر فإنهم أتباع للولايات المتحدة، وهم إرهابيون أجانب ومسلحون يحاولون الانضمام إلى الجماعات المعارضة التي تدعمها الولايات المتحدة”.
وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف”
شرعية “بشار”
هنا تحاول موسكو تكريس صورة لا ترى ضيرا من الجهر بها، وهي أن أطياف المعارضة السورية المسلحة، بالإضافة إلى التنظيمات الإسلامية التابعة لواشنطن، وهو ما يعني بالضرورة أن الميليشيات الإيرانية التي تواجهها تابعة لموسكو، وبالتالي فإن المسلحين الأجانب من أتباع الولايات المتحدة وجودهم غير شرعي، قياسا إلى موقفهم المعارض للنظام السوري، بينما التواجد الإيراني شرعي لأنه جاء بدعوة من تلك الحكومة، أي أن دائرة الشرعية عادت بكل قوتها إلى بشار الأسد.
من هذا المنطق قد نستطيع القول إن التصريحات الروسية الأخيرة تأتي كتطبيق عملي وجديد من نوعه لفكرة تكريس شرعية “الأسد” التي كانت قد انهارت بشكل شبه كلي خلال الشهور الماضية، بل إن الحديث كان يدور علنا عن مسؤولين أمريكيين بارزين بأنه لا مكان للأسد في مستقبل سوريا، دون أن تعارض روسيا علانية تلك التصريحات.
” ميليشيات إيران “
قوات “المعارضة السورية”
حامية طهران
أحد أخطر تجليات ذلك التطور هو أن روسيا باتت رسميا حامية لما تعتبره القوى العربية السنية الكبرى بالمنطقة “تمددا إيرانيا” يحمل أخطارا وجودية على تلك القوى، وأبرزها بالطبع الحكومات الخليجية، لا سيما المملكة العربية السعودية، والتي يقود ولي عهدها وحاكمها الفعلي، وفقا للكثيرين، معركة مكشوفة الوجه ولا تخضع لحسابات التدرج مع إيران حاليا.
محللون يؤكدون أن التحركات السعودية الأخيرة لم تتم إلا بمساعدة وضوء أخضر أمريكي، بعد صفقة مغرية تمت بين الرياض وواشنطن صنعت ما يشبه التحالف الأبوي بينهما، فالرياض بمقتضى ما دفعته للخزانة الأمريكية من مليارات باتت تملك حرية أكبر للتصعيد في المنطقة بنفس الأسلوب الإيراني، وهو ما ظهر في الخطوة الأخيرة للرياض في لبنان، حيث وصفها محللون بتدخل لإرباك الأوضاع على الطريقة الإيرانية.
التحرك الأمريكي العلني في هذا الإطار جاء مؤيدا بشكل علني للرياض، بل إن الرئيس الأمريكي عندما قرر التصعيد وإعلان إمكانية انسحابه من الاتفاق النووي مع طهران تحدث عن التدخلات الإيرانية في المنطقة، وهو أمر لم يكن يهم أمريكا في السابق، وبدا أن ترامب يتحدث بلسان المخاوف السعودية.
“بن سلمان” و “ترامب”
أوروبا أيضا
الجديد أيضا أن السعودية يبدو أنها في طريقها لاستمالة أوروبا للضغط على إيران، ومثلت الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون للرياض انعكاسا على هذا الأمر، بعدما خرجت تقارير تؤكد أنه طلب دعما ماليا من السعودية لمشاريع عسكرية فرنسية الهوى في الساحل الإفريقي.
ويبدو أن الرياض وافقت، بدليل خروج الرئيس الفرنسي في مقابلة صحفية، ليؤكد ضرورة التعامل بحزم مع نشاطات إيران الإقليمية وبرنامجها الخاص بالصواريخ الباليستية، وتلميحات الخارجية الفرنسية يوم 13 نوفمبر بإمكانية فرض عقوبات على طهران بسبب برنامج الصواريخ، وهو ما رفضته الأخيرة، مؤكدة أن صواريخها الباليستية لأغراض دفاعية ليست لأي شيء آخر.
من هنا باتت إيران في مرمى تأثير غير مسبوق للأموال السعودية على القوى الكبرى العالمية، الولايات المتحدة وبعدها أوروبا، وهو ما يمكن أن يفسر الإسراع الروسي بالتحدث نيابة عن طهران، وإعلان رعاية تدخلاتها في سوريا، ولعل الأيام تخبئ ما هو أعظم، فلا يستطيع أحد أن يستبعد الآن خروج موسكو لتعلن تأييد التواجد الإيراني في لبنان، بل وفي منطقة الخليج، إذا اقتضت الضرورة لتحدي الأمريكيين والأوروبيين.
الرئيس الفرنسي “ماكرون”
محاولة للاحتواء
السعوديون من جانبهم تنبهوا لهذا الغضب الروسي فحاولوا احتواءه لكي لا يفسد تحركاتهم التصعيدية مع إيران بالمنطقة، فكانت زيارة الملك سلمان لموسكو، التي توجت بعدة اتفاقيات بمليارات الدولارات وعقود شراء أسلحة روسية، لكن يبدو أن ذلك التحرك لم تكن قوته كافية لغض طرف موسكو عن تصاعد وتيرة تحرك الرياض ضد طهران.
الآن تبدو التحركات الأمريكية مستفزة لروسيا في سوريا، والتحركات الأمريكية الخليجية والتجاوب الأوروبي معها دفع موسكو للإسراع باحتلال الكفة الأخرى من اللعبة المرشحة للتصاعد خلال الفترة المقبلة لتكون اللعبة العالمية الأبرز والمتعلقة بالمكاسب الاقتصادية والنفوذ الصلب في أكثر مناطق العالم حساسية، الشرق الأوسط.
اضف تعليقا