لطالما احتفى المفتونون بـ”إنجازات” الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي قاد انقلابا عسكريا داخليا ضد حركة الضباط الأحرار عام 1952 التي خرجت ضد الحكم الملكي في مصر إبان تلك الفترة، وترتب على إثره اعتقال الرئيس المصري الأول محمد نجيب، وتنصيب عبد الناصر حاكما عسكريا على البلاد، لتستمر معه مصر في غياهب الحكم العسكري حتى يومنا هذا باستثاء عامين فقط إبان ثورة 25 يناير، التي انتهت بانقلاب عسكري آخر قاده قائد الجيش عبد الفتاح السيسي.

ومثل أي انقلاب عسكري غير ديموقراطي، انطلقت ألسنة الإعلام الموالي للانقلاب في تزوير الحاضر والتاريخ عبر إشاعة فرضيات سرعان ما تجد صداها بين المغيبين والعوام، لا سيما في ظل عرقلة حركة التثقيف ومنع النخبويين من الوصول إلى العامة، وترك الشعب ضحية لمجموعة من الإعلاميين المرتزقة الذين يسبحون ليل نهار بحمد النظام العسكري وإنعامه وأفضاله.

ومما ردده الإعلام الناصري في مصر بعد انقلاب 23 يوليو 1952، أن التعليم كان محصورا على الأغنياء وعيلة القوم وحسب، ولم يكن ممكنا للفقراء من أبناء الوطن المصري أن يحصلوا على نصيبهم من التعليم، ولكن بفضل الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الناصر، بات جميع المصريين قادرين على التعلم ونيل فرصتهم الخالصة في التعليم الكامل، وهو ما يوجب على المصريين أن يشكروه ويحمدونه لقائد الانقلاب العظيم، جمال عبد الناصر.

لكن نظرة فاحصة لما كان يُعرض على شاشات السينما العربية والمصرية في تلك الفترة، والتي كانت تدار بإشراف المجلس العسكري الناصري نفسه، تعطينا رؤية مغايرة تماما لما كان ذائعا في ألسنة الإعلاميين المؤيدين للنظام العسكري، إذ بدا واضحا أن التعليم في تلك الفترة كان مسموحا به للجميع، وبقيود متشابهة تقريبا، وأن جانبا من الفوارق بين مستوى التعليم بين الأغنياء والفقراء كان عائدا في الأساس للقدرة المالية وليس في القوانين ولا النظام الاجتماعي نفسه.

وفي مشهد شهير في فيلم العزيمة الذي صدر عام 1939، كان بطل الفيلم حسين صدقي (الذي يدعى داخل العمل بـ “محمد”) ابن أسرة فقيرة جدا، ورغم ذلك استطاع نيل “الشهادة الكبيرة” على حد وصف كاتب الفيلم نفسه الذي بطبيعة الحال قد كتبه وصوره وعرضه قبل قيام الانقلاب العسكري نفسه.

وتكرر الأمر في مشهد بفيلم غزل البنات الصادر عام 1949، إذ إنه في بدايته يدور حوار بين نجيب الريحاني وعبد الوارث عسر حين خرج الأول من الفصل منفعلا من الضوضاء التي تصدرها الفتيات داخل الفصل، ليرد عليه عبد الوارث عسر بقوله: “معلش علشان أهاليهم غلابة”. وهو مشهد يعكس أن “الغلابة” في ذلك الوقت كانوا يعلمون بناتهم وليس أولادهم وحسب.

وفي مشهد شهير من فيلم رد قلبي، وهو نفسه أحد أشهر الأفلام المدافعة عن انقلاب 23 يوليو، يظهر بطل الفيلم هو وأخوه -أولاد جنايني بسيط- ومع ذلك استطاع أن يعلمهم ويدخلهم الكلية الحربية أيضا دون واسطة أو تزوير.

وفي مشهد في فيلم الأيدي الناعمة – الذي يعتبر أيضا أحد أشهر الأفلام المدافعة عن انقلاب يوليو 52 – يظهر في الفيلم البطل أحمد مظهر وهو يأكل “بسبوسة” عند “الراجل بتاع البسبوسة”، وفجأة يأتي شاب مهندم المظهر، ليتضح أنه “ابن بائع البسبوسة” الذي تخرج في كلية التجارة، لكن “لسة مقبضش وجاي ياخد مصروفه” على حد قول والده.

صحيح أن أفلام مثل رد قلبي والأيادي الناعمة، عُرضت بعد انقلاب يوليو بأشهر قليلة، لكن عمليا تمت كتابتها وتصويرها خلال فترة الملكية، أو بعد الانقلاب بأيام بسيطة، وهو ما يعني أن أبطال الأعمال الذين ظهروا كمتعلمين في أرقى الجامعات المصرية قد تلقوا هذا التعليم إبان الملكية، رغم فقر حالتهم وضعف دخول أهاليهم من الفقراء.

بل إنه في مشهد آخر شهير في فيلم الأيدي الناعمة، فإن الشخصية التي جسدها الممثل المصري صلاح ذو الفقار، جاءت لتعرض شخصا مُعدما لدرجة أنه “كان بيتعشى ذرة مشوي عشان غلبان”، على حد وصف البطل. ومع ذلك استطاع أن ينال درجة الدكتوراه في اللغة العربية. أي لم ينل فقط حظه من التعليم الأساسي، بل تخطاه إلى حد نيل درجة “فوق العالي” وهو لا يملك قوت يومه في فترة الملكية! 

وفي مشهد من فيلم قاهر الظلام الذي يجسد حياة الأديب طه حسين، ابن الفلاح الفقير جدا إلى حد العدم الكامل، علاوة على أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة. ومع ذلك تعلم في الأزهر الشريف، ثم قدم طلبا لبعثة في فرنسا، وتم الموافقة عليها في عهد الملك فؤاد، وأخذ الدكتوراه من هناك على حساب الدولة الملكية، بحسب رواية الفيلم نفسه. 

وفي مشهد آخر من فيلم الأفوكاتو مديحة الذي عُرض أول مرة عام 1950، كانت البطلة مديحة يسري “ابنة فلاحين بسطاء”، ومع ذلك استطاعت أن تتعلم وتسافر إلى القاهرة وتدرس في كلية الحقوق العريقة، في وقت كانت نسب عالية من النساء في أوروبا يعملن إما في الدعارة أو في مهن شاقة جدا بالمصانع لتوفير قوت اليوم بالكاد. هذا فضلا عن شقيقها يوسف وهبي الذي كان متعلما أيضا “تعليما عاليا” وهو ابن أسرة معدمة.

كل تلك المشاهد وغيرها الكثير، يكشف بجلاء حقيقة الزعم بأن التعليم إبان الملكية كان مقصورا فقط على الأغنياء والمقتدرين، إذ إن التعليم في مصر كان مجانيا منذ أن أدخله محمد علي باشا -مرتكب مذبحة القلعة- في أوائل  القرن التاسع عشر، بعد أن كان التعليم في مصر قاصر فقط على نظام الكتاتيب، لتستقبل مصر منذ ذلك الحين مدارس نظامية بشهادات رسمية، إضافة إلى إرسال البعثات إلى أوروبا لترقية التعليم بمصر و كان ذلك للأغنياء والفقراء على حد سواء، وإن تخلله بالطبع بعض الوسائط والفساد كحال أي تجربة إنسانية لا يتصور أن تكون كاملة كل الكمال.