منصور عطية

كلما ظن البعض أن أزمة سد النهضة الإثيوبي في طريقها للانفراج، يتبين أنها ليست فقط تراوح مكانها، بل تتجه إلى مزيد من التعقيد في ظل تمسك كل من أطرافها بموقفه.

واعتقد كثيرون أن الاجتماع الثلاثي بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم، الأسبوع قبل الماضي، سيشهد تزحزحًا، إلى أن جاء إعلان أديس أبابا بتحميل القاهرة مسؤولية الفشل في التوصل لاتفاق خلال الاجتماع.

هذا التطور اللافت يتزامن مع بدء الرئيس عبدالفتاح السيسي فترته الرئاسية الثانية، بعد انتخابات أقرب إلى الاستفتاء، على نحو يدفع بالتساؤل: هل تتنازل مصر السيسي في 2018 عن ثوابت سابقة بشكل ينهي الأزمة أم تبقى الأوضاع على ما هي عليه؟.

نقطة خلاف واحدة

وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، قال إن اجتماع الخرطوم الأخير بشأن سد النهضة وضع تفاهمات لضمان عدم تضرر أي طرف من السد، وأن يكون إعلان المبادئ هو الفيصل في كل ما تختلف الدول عليه”.

وتابع في حوار نشرتهالأهرام: “اتفقت الدول الثلاث على أن يكتب كل بلد الأسئلة التي يريد أن يوجهها للشركة التي تتولى الدراسات الخاصة بالسد، وأن يأتي الخبير من الشركة للإجابة على هذه الأسئلة في اجتماع لوزراء الري واللجنة الفنية الثلاثية، ثم يعرض على الاجتماع القادم”.

وكشف “غندور” أن ما وصفها بـ”نقطة الخلاف الصغيرة” التي بقيت في اجتماع الخرطوم تتعلق بتحفظ إثيوبيا على اتفاقية مياه النيل الموقعة بين مصر والسودان عام 1959، وتمنح القاهرة 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا من مياه نهر النيل، بينما تحصل الخرطوم على 18.5 مليار متر مكعب.

تتماشى تصريحات الوزير السوداني، مع ما صرح به المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية “ملس ألم”، قبل أيام، حيث حمّلت بلاده مصر المسؤولية عن فشل اجتماع الخرطوم الثلاثي في التوصل لاتفاق بشأن سد النهضة الإثيوبي.

المتحدث قال: “إثيوبيا تعتبر أن هذه الاتفاقية لا تعنيها، وطرح تلك الاتفاقية يعتبر خطًّا أحمر، ولا يمكن أن تتفاوض أديس أبابا حولها، فلا يمكن أن نتحدث عن اتفاقيات لم نكن طرفًا فيها”.

لكن نظيره المصري “أحمد أبوزيد”، نفى تلك الاتهامات، مؤكدًا أن “مصر شاركت في اجتماعات الخرطوم بكل إيجابية ورغبة جادة في التوصل لاتفاق يكسر حالة الجمود الحالية في المسار الفني الخاص بالسد”، وقال إن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، وجه دعوة لنظيريه السوداني والإثيوبي لحضور اجتماع ثانٍ يعقد في القاهرة لاستكمال المناقشات.

وكان “شكري”، قد أعلن في وقت سابق أن مفاوضات الخرطوم “لم تسفر عن مسار محدد، ولم تأت بنتائج محددة”، دون ذكر الأسباب، وضمت هذه المفاوضات وزراء الخارجية والري ومديري أجهزة المخابرات في كل من إثيوبيا والسودان ومصر.

كيف تتصرف مصر؟

ولعل الحديث عن استشراف السيناريوهات المصرية للتعامل مع الأزمة مستقبلا كثر للغاية خلال الفترات الماضية، إلا أنه وبعد التطورات الأخيرة فإن ثمة تغيرًا قد يجعل تناول تلك السيناريوهات أكثر جدية.

فلم تمر سوى أيام على إعادة انتخاب السيسي رئيسًا لمصر لفترة ثانية، الأمر الذي يحمل معه توقعات بأن يتغير توجه مصر نحو الأزمة، بعد أن استقر الأمر للسيسي، وسط أزمات لاحقته قبل الانتخابات، تمثل أبرزها في كيفية إزاحة منافسيه المحتملين على كرسي الرئاسة.

هذا السياق، يقود إلى ترجيح أن يكون تعامل السيسي مع أزمة سد الهضة ربما أكثر حزمًا وجدية بعد أن تجاوز عقبات داخلية كبيرة واستتبت له الأمور، ولم يعد لديه أزمة سوى القضاء على الإرهاب في سيناء، كما أنه خارجيًّا يتمتع بعلاقات وثيقة مع القوى الكبرى ودول الخليج الداعمة له، ويحافظ على توازنات غير مسبوقة بين معسكري الشرق والغرب.

التصريح الأبرز للسيسي حول سد النهضة قبل أسابيع من الانتخابات، عندما قال في كلمة للصحفيين أعقبت القمة التي عقدت على هامش أعمال القمة الثلاثين للاتحاد الإفريقي، أواخر يناير الماضي: “كونوا مطمئنين تمامًا، فيه قادة مسؤولين.. التقينا واتفقنا على إن مفيش ضرر على حد”.

وأضاف ردًّا على سؤال أحد الصحفيين عما إذا كانت أزمة سد النهضة قد انتهت: “لم تكن هناك أزمة من الأساس”.

في الشهر نفسه أكد السيسي في كلمته لدى افتتاحه عددًا من المشروعات التنموية بمدينة السادات في المنوفية، أن مصر “لن تحارب أشقاءها أبدًا”، وأتبع تلك العبارة بقوله: “أقول للأشقاء في السودان وإثيوبيا، إن مصر لا تتآمر ولا تتدخل في شؤون أحد، ونحن حريصون على علاقتنا الطيبة، ويكفي ما شهدته المنطقة خلال الأعوام الماضية”.

مقابل التهدئة المصرية كان “التصعيد” هو العنوان الإثيوبي، حيث رفضت أديس أبابا طلب مصر ضم البنك الدولي للتحكيم في مباحثات آثار سد النهضة الإثيوبي على جريان نهر النيل.

السيناريو الأول المتوقع بالنسبة لمصر، يقف عند حدود الاستمرار في البحث عن وسائل سياسية ودبلوماسية للخروج من المأزق الحالي، أي ما يعني تلقائيًّا الاستمرار في خسارة الوقت الذي لا يصب في صالحها، بعد التقارير التي تحدثت عن إتمام بناء أكثر من ثلثي السد خلال الاحتفال بالذكرى السابعة لوضع حجر أساسه قبل نحو أسبوعين.

ولعل الجدل الدائر عن احتمالية توجيه ضربة عسكرية تقضي على سد النهضة يتجدد في الوضع الحالي، بعد عدة أشهر على صدور تقرير بريطاني كشف النقاب عن حالة استنفار في صفوف القوات المسلحة الإثيوبية والسودانية، بعد تداول تقارير عن نوايا مصرية لضرب السد.

موقع “ميدل إيست مونيتور” نقل حينها عن مصادر استخبارتية وأمنية سودانية، قولها: إن “هناك حالة استنفار من قبل القوات العسكرية في السودان وإثيوبيا على حدود البلدين، لوصول أنباء لها باستعداد مصر للقيام بهجوم محتمل على سد النهضة في إثيوبيا”.

وقبلها أفادت تقارير إعلامية، بأن مصر تُجري اتفاقًا سريًّا مع إريتريا لتأسيس قاعدة بحرية على جزيرة “نورا” في البحر الأحمر، الأمر الذي أثار مخاوف إثيوبيا من قيام القاهرة بشن ضربة عسكرية تدمر سد النهضة.

سد النهضة بالأرقام

ولدت فكرة بناء سد النهضة الإثيوبي عام 1964، وعندها حددت إثيوبيا 26 موقعًا لإنشاء السدود؛ أهمها سد “الألفية أو الحدود” والذي سمي فيما بعد بسد “النهضة”، أثبتت الدراسات وقتها وجود عقبة رئيسية  تشير إلى أن التربة في إثيوبيا غير صالحة لإنشاء السدود، وأن إنشاء السد سيشكل تهديدًا مائيًّا على مصر.

واستغلت إثيوبيا ثورة 25 يناير 2011، وانشغال مصر في أوضاعها الداخلية، وبدأت بالفعل في إنشاء السد، حتى وجد الرئيس الأسبق محمد مرسي تهديدات الأمس واقعًا، فأعلن في مؤتمر جماهيري يونيو 2013، أنه “إذا نقصت مياه النيل نقطة واحدة فدمائنا هي البديل”، وبدأ الجميع يتحدث عن حالة حرب.

“سد النهضة” أو “الألفية” هو أكبر السدود فى قارة إفريقيا ويعرف باسم “سد الألفية العظيم”، حيث يبلغ ارتفاعه 145 مترًا، وطوله حوالي 1800 متر، وتقدر تكلفة إنشائه بحوالي 5 مليارات دولار، أغلبها تمويل حكومي واستثمارات لشركات أجنبية.

يقطع السد مجرى النيل الأزرق، أكبر فروع النيل، قرب الحدود مع السودان في ولاية بنيشنقول قماز الإثيوبية، وتبلغ سعته التخزينية 74 مليار متر مكعب، أي حوالي مرة ونصف من إجمالي سعة النيل الأزرق من المياه سنويًّا.

تقدر القدرة المبدئية للسد على توليد الكهرباء بحوالي 6000-7000 ميجاوات، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية المولدة من محطة سد أسوان الكهرومائية.

ولعل الأخطار المحدقة بمصر، تلخصها إلى حد كبير دراسة مستفيضة نشرها الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، في يناير 2016، وحملت عنوان (الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المُحتملة لسد النهضة الإثيوبي وانعكاساتها على مستقبل الزراعة المصرية).

الدراسة تشير إلى أنه إذا ما قررت إثيوبيا أن تملأ بحيرة السد في ثلاث سنوات فقط، فسترتفع الكمية المحجوزة سنويًّا خلف سد النهضة إلى 24.7 مليار متر مكعب، نصيب مصر منها 18.5 مليار سنويًّا ترتفع إلى 25.5 مليار في حال الفيضان الضعيف، الأمر الذي يعني تبوير 4.6 مليون فدان، أي أكثر من 51.5% من الرقعة الزراعية الحالية.

الدراسة رجحت أن تصل قيمة الفقد في الإنتاج الزراعي إلى نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع أن تتفاقم الفجوة الغذائية وتتجّه إلى الاتساع بشكل جوهري نظرًا لأن محاصيل الحبوب، وهي عصب الأمن الغذائي، سوف تتأثر سلبًا بدرجة أكبر بالمقارنة بالزروع البستانية.