العدسة – منصور عطية

ربما لم تنج دولة عربية من رياح الأزمة الخليجية كما نجا السودان، فكما يصنفه كثيرون بأنه منحاز لجانب قطر، يراه آخرون محافظا على علاقات وثيقة بمعسكر دول الحصار.

وعلى الرغم من نجاحه بشكل كبير، لكن سياسة “الحياد” تلك قد لا تنفع صاحبها حتى النهاية، إذ لابد له من تبني موقف واضح ومحدد إلى أولئك أو هؤلاء.

السودان “ميكس”!

خلال سنوات حكمه الممتدة منذ العام 1989، استطاع الرئيس السوداني عمر البشير اللعب على أوتار غير متناغمة، والانضمام إلى معسكرات والخروج منها وفق ما تقتضيه الضرورة بإرادته أو مكرهًا.

وشكلت الأزمة الخليجية الحالية وما سبقها بسنوات قليلة، مثالا حيًّا على تلك السياسة التي سعى “البشير” من خلالها إلى الاستفادة من جميع الأطراف، وإمساك العصا من المنتصف على نحو يصعب معه تصنيفه بدقة.

“البشير” هو الذي قال من القاهرة فور لقائه بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل يومين، إن قوة القاهرة قوة للخرطوم، معلنا دعمه للسيسي لتولي فترة رئاسية ثانية، وذلك على الرغم من الأزمات التي تعصف بالعلاقات بين البلدين.

النزاع على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي من جهة، وسد النهضة الإثيوبي من جهة أخرى، والتراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة على أكثر من مستوى، جميعها لم تمنع البشير من إعلان موقفه.

في المقابل، فإن “البشير” نفسه هو من قرر تخصيص جزيرة “سواكن” في البحر الأحمر – والقريبة من مثلث حلايب وشلاتين – لتركيا من أجل تطويرها وإدارتها لمدة غير محددة، فضلًا عن العديد من الاتفاقيات التجارية والعسكرية التي وقعتها الخرطوم مع أنقرة خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هناك، أواخر ديسمبر الماضي.

هذا التقارب غير المسبوق، جاء رغم التوتر السائد في العلاقات بين القاهرة وأنقرة، منذ إطاحة الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013، ومشاركة القاهرة ضمن تحالف حصار قطر التي تدعمها أنقرة منذ بداية الأزمة سياسيًّا وعسكريًّا.

ورغم أن السودان يرفض حتى الآن – مع تعرضه لضغوط شديدة- الانضمام لمعسكر دول حصار قطر، فإن قواته الأكبر بعد السعودية والإمارات لا تزال مرابطة على الحد الجنوبي للمملكة ضمن قوات التحالف التي تحارب الحوثيين المدعومين إيرانيا في اليمن، وتتعرض لخسائر كبيرة.

ضبابية المشهد السعودي

ومع التسليم بخصوصية العلاقات السودانية المصرية، فإن مشهد العلاقات السعودية مع الخرطوم يبدو الأكثر ضبابية بين دول الحصار، ولا يُعرف على وجه التحديد هل يتقارب البلدان أم تزيد الهوة بينهما؟.

في 2016، قرر السودان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران – رغم العلاقات الوثيقة التي كانت تربطهما في حينه – وذلك تضامنا مع السعوديةعلى خلفية حادث الهجوم على سفارة المملكة وقنصليتها في طهران.

قوبلت تلك الخطوات السودانية بترحيب سعودي كبير، ووجه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز حكومته وصناديق التمويل والمستثمرين السعوديين، لتقديم الدعم الكامل للسودان في المرحلة المقبلة، كما أجرت القوات السودانية والسعودية -خلال فترة المد التي شهدتها علاقات البلدين- مناورات وتدريبات مشتركة، والتقى قائدا البلدين خمس مرات، خلال العام الماضي 2017.

ويرتبط البلدان باتفاقات تجارية واستثمارية في مجالات عدة، منها المجال الزراعي، كما تلقى السودان وديعة استثمارية سعودية بقيمة مليار دولار في 2015، ووديعة أخرى في مارس 2018 بقيمة 1.4 مليار دولار، لدعم احتياطاته من العملات الأجنبية.

لكن إلى الآن تمتنع البنوك السعودية عن إنجاز تحويلات السودانيين المقيمين بها إلى بلدهم، في قرار يستثني أبناء تلك الجالية عن غيرهم من الجاليات العربية والأجنبية المتعددة هناك، الأمر الذي يحرم الخرطوم من رافد مهم  يمكن أن يخفف الأزمة الاقتصادية.

كما كانت صدمة السودانيين كبيرة، بعد توقيع الرياض اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع القاهرة في 2016، والقاضية بتنازل مصر عن جزيرتيْ تيران وصنافير للسعودية، والتي تضمنت اعترافا سعوديا بتبعية مثلث حلايب لمصر.

ولعل ما أشعل غضب السودان، أن تلك الاتفاقية لم تلتزم ببنود اتفاق سابق بين الخرطوم والرياض وُقع عام 1974، ونص على سودانية مثلث حلايب.

الإمارات لم تكن بعيدة عن هذا الجدل، فبينما تعلن سعيها لدعم الاقتصاد السوداني وتعزيز العلاقات الثنائية، تساند خصوم الخرطوم الإقليميين.

وتجلى الأمر في قرار السودان إغلاق حدوده مع إريتريا، بعد رصده نشاطات عسكرية متزايدة في قاعدة “ساوا” الإريترية لقيادات عسكرية وأمنية من القاهرة وأبوظبي، فضلا عن جنوب السودان وفصائل متمردة على حكومة الخرطوم في دارفور وغيرها.

إلى أين البوصلة؟

ملخص المشهد السوداني باختصار شديد، أنه أصبح تائها بين معسكرين، رغم ما يظهر على أنه سيطرة ونجاح في المحافظة على علاقات وثيقة بمختلف الأطراف الإقليمية.

وأصبح السودان أسير حالة فريدة، فهو يتعرض لضغوط شديدة من أجل التخلي عن موقفه المحايد من الأزمة الخليجية والتزام معسكر حصار قطر، وفي الوقت نفسه لا يزال يسدد فاتورة باهظة التكاليف لاستمرار مشاركته في حرب اليمن، التي بات محسوما أن الجميع فيها يبحث فقط عن مصالحه، وتبين زيف إعادة الشرعية وغيرها من العبارات الرنانة.

فهل تضطر الخرطوم إلى تحديد بوصلتها إلى أي المعسكرين تنضم؟ أم تستمر في سياسة “الحياد” وما يمكن أن تجره عليها من ويلات وأزمات؟.