العدسة – منصور عطية:

تفاصيل جديدة تكشفها الوثائق السرية المسربة من جهاز الاستخبارات السوفيتية “كي جي بي” فيما يخص العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح.

الوثائق التي سربها الكولونيل “فاسيلي ميتروخين”، أمين المحفوظات السابق للجهاز، تكشف حقيقة تجنيد الاستخبارات السوفيتية لقادة المنظمة ومن بينهم الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية محمود عباس.

ولعل اللغط الذي تثيره المعلومات التي تضمنتها الوثائق، يتماهى مع العلاقة المتسارعة في التوتر بين عباس والإدارة الأمريكية، على نحو يعجّل بأفول نجمه، وسط تقارير تتحدث عن اتفاق إقليمي ودولي على ضرورة استبدال عباس بوجه آخر على رأس السلطة.

عرفات يتملص من السوفييت

وتشير الوثائق إلى أنه تم إبلاغ رئيس الاتحاد السوفييتي ليونيد بريجنيف، (رئيس الاتحاد السوفييتي بين عامي 1964 و1982)، في يوليو 1970 بوجود شخص “يعتمد عليه” يدعى و. حداد، ولقبه “القومي” لمراقبة عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتأثير عليها بما يخدم مصالح الاتحاد السوفييتي.

وبدأ “كي جي بي” اتصالاته السرية مع “القومي” عام 1968، محددًا أهداف الجهاز بـ”تدبير عمليات خاصة لتعطيل خطوط النفط الرئيسية في بلدان الشرق الأوسط”، و”تنفيذ أحكام القضاء السوفييتي بحق الخونة (المنشقين)”، و”الرقابة على نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لمنع تنفيذ أعمال خطرة قد تمس بمصالح الدولة السوفييتية”، وتوجيه نشاط الجبهة ضمن المسار المناسب للاستخبارات السوفيتية.

وتضم الوثائق، بحسب تقارير إعلامية، معلومات عن خطط بعض العمليات التي نفذها “كي جي بي” بواسطة حداد، ومنها خطة عملية خطف نائب مدير مقر وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” في بيروت.

كما تشير إحدى الوثائق إلى أن “القومي” تسلم عددًا من قاذفات آر بي جي-7 وصواريخ لتنفيذ إحدى العمليات التي أطلق عليها اسم “ناسوس” (مضخة) لاستهداف ناقلة نفط إسرائيلية مبحرة من إيران عبر باب المندب، متضمنة اسمي محمد صالح ثائر (تشوك) وأحمد خليل جيندوان (غيك) بصفتهما منفذي العملية.

جهاز “كي جي بي” كان على تواصل مع أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” في سوريا ولبنان، ولكن ثقته بهما كانت أقل من ثقته بالجبهة الشعبية، ومع ذلك، لا تخلو القائمة من أسماء مهمة مثل أمين سر المجلس الثوري لحركة “فتح”، ماجد أبو شرار، الذي تقول الوثائق إنه كان يستخدم للترويج لمواد صحفية، وأحد مؤسسي “فتح”، أبو إياد، الذي بدأ “الاتصال الشخصي” معه في عام 1978 بحسب الوثائق، ليقدم معلومات حول مصر والسعودية والجزائر، ورئيس قسم التصنيع بحركة “فتح” المسؤول عن صناعة الأسلحة الخفيفة والمتفجرات، عدنان سمارة.

وحاول “كي جي بي” أيضا الاستعانة برئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات، الملقب بـ”عارف” والذي بدأ التواصل معه خلال إحدى زيارات وفد المنظمة إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1972، بحسب إحدى الوثائق.

إلا أن الوثيقة ذاتها تذكر أن “عارف” كان يتنصل من التواصل “بسبب انشغاله” ويتبع “أسلوب المناورة” لعدم رغبته في “الإخلال بالتوازن بين العلاقات مع البلدان الاشتراكية والأنظمة العربية المحافظة”.

عباس في القفص

أما أشهر الشخصيات الواردة أسماؤها في الوثائق والتي لا تزال على قيد الحياة، فهو الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية، محمود عباس.

في سبتمبر 2016، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تقريرا عن وثيقة تشير إلى أن عباس كان يعمل لصالح المخابرات السوفيتية “كى- جى بي” خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي.

وطبقًا للوثيقة فإن المخابرات السوفيتية كلفت محمود عباس بجمع معلومات هامة عن سوريا بالتحديد في عام 1983 لصالحها، وكان يحمل وقتها اسمًا كوديًا طبقا للوثائق الصادرة باللغة الروسية، ويدعى “كوروتوف” بمعنى “الخلد”.

كانت الوثيقة التي سمت محمود عباس عميلًا لاستخبارات الاتحاد السوفييتي بين آلاف الصفحات من الملفات المهربة من روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، والتي سلمت إلى المخابرات البريطانية.

فيما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن الولايات المتحدة كانت لا تثق في عباس لعلمها بأنه أكثر ولاءً للاتحاد السوفيتي السابق ولروسيا الاتحادية الآن، موضحة أن العلاقات الطيبة مع روسيا استمرت حتى بعد توليه رئاسة السلطة الفلسطينية.

المثير أن جميع المحللين والمتابعين بمن فيهم أولئك المقربون من عباس لم ينفوا صحة الوثائق، بل ذهبوا إلى أن كشف محتواها في هذا الوقت محاولة لتقويض سلطته، بالتزامن مع حملة شرسة ضده في الداخل والخارج.

مرفوض من الجميع

كان لافتًا أن التداول الإعلامي لتلك الوثائق يتزامن مع ارتفاع حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والرئاسة الفلسطينية بعد أن لوّح سفير واشنطن في تل أبيب “ديفيد فريدمان” باستبدال رئيس السلطة ما لم يتفاوض مع إسرائيل، وهو ما رأت فيه الرئاسة تهديدًا يستهدف شخص عباس.

وقال “فريدمان” في تصريحات متلفزة إنه إذا لم يقبل عباس الانخراط في مفاوضات مع إسرائيل فسيتم إيجاد بديل له يملأ الفراغ الذي سيحدثه، في تصريح هو الأول من نوعه الذي يتحدث فيه صراحة مسؤول في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن احتمال إقدامها على قرار سحب الاعتراف بمحمود عباس.

وكان عباس هاجم في اجتماع للقيادة الفلسطينية- ضم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح- في رام الله مارس الماضي إدارة ترامب والسفير الأمريكي في تل أبيب، بسبب اعتبار الأخير الاستيطان شرعيًا، وشتم الرئيس الفلسطيني فريدمان بوصفه “ابن كلب”، واعتبره مستوطنا ومن عائلة مستوطنة.

وعلى الرغم من إصرار عباس على المضي قدما في عملية السلام واستعداده للتفاوض بدون الوسيط الأمريكي، إلا أن مخاوف حقيقية تساور القيادة الفلسطينية من أن تسعى واشنطن بالتعاون مع إسرائيل ومن دون اعتراض عربي إلى البحث عن بديل لعباس، والخلاص منه على غرار ما فعلت مع سلفه الرئيس الراحل ياسر عرفات، عندما أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن “غير ذي صلة”، وأعطى الضوء الأخضر لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون بفرض الحصار عليه حتى الموت من دون اعتراض أحد.

وفي ديسمبر الماضي، نقلت تقارير إعلامية عن مصادر فلسطينية رفيعة المستوى في السلطة، قولها إن الإدارة الأمريكية أعطت الضوء الأخضر لخلاياها في المنطقة بالتحرك لإيجاد البديل الفلسطيني، وأصبح هذا الملف “بديل عباس” بالنسبة لترامب أولوية كبرى قبل إطلاق أي عملية سياسية تتعلق بإيجاد حلول للصراع، وإحياء مشروع “التسوية” بعيدًا عن عباس.

“الشجاعة” البادية من تحدي عباس للولايات المتحدة ربما تنمّ عن ضعف وليس قوة، لرجل تجاوز الثمانين عامًا، ويقلّ تدريجيًا نفوذه الإقليمي والدولي وثقة الأطراف المختلفة فيه، أبرزها مصر لما يخص ملف المصالحة، وأمريكا لموقفه من قرار القدس ونقل السفارة ومؤخرًا سبّ السفير، وإسرائيل بسبب حدة خطابه تجاهها مؤخرًا.

نفوذ عباس الآخذ في الاضمحلال، يتزامن مع صعود كبير لنجم القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، وما يتمتع به من ثقل وعلاقات واسعة ومتشعبة بمختلف الأطراف الإقليمية والدولية، ما يؤهله لتصدر المشهد بعد إزاحة عباس غير المرغوب فيه من الجميع.

فهل يمكن أن تدق الوثائق السوفيتية مسمارا آخر في نعش عباس وتساهم في الخصم من رصيده تمهيدا لتنفيذ مخطط إزاحته؟