اعتادت واشنطن، خلال العقود الأخيرة، على أن تكون خلف الرياض في كل ما يتعلق بالمسار السياسي في اليمن، وأن تتعامل بتماهٍ مع التحالف السعودي – الإماراتي. لكن هناك اتجاهات جديدة فرضت على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الدخول بشكل مباشر على خط الحرب اليمنية، لتخفيف ضغوط الكونغرس، وإنقاذ السعودية من هذا المستنقع، والتوسط بين الرياض وأبوظبي لتجاوز اختلافاتهما المتزايدة في اليمن.

وتأتي زيارة نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان إلى واشنطن في سياق مسعى أميركي لفتح قنوات اتصال مع الحوثيين في سلطنة عمان، لإعلان وقف لإطلاق النار في اليمن، كما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أخيراً. وهي طبعاً ليست المرة الأولى التي يتحاور فيها “أنصار الله” (الحوثيين) مع كل من الرياض وواشنطن. السعودية عقدت مباحثات مباشرة مع الحوثيين في مارس/ آذار 2016، والتي سمحت حينها بإطلاق مباحثات السلام في الكويت. وأوائل العام 2015، فتحت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قنوات اتصال مع الحوثيين بهدف التوصل إلى هدنة وإطلاق المعتقلين الأميركيين لدى حركة “أنصار الله”، التي لم تضعها واشنطن حتى الآن على لائحة الإرهاب. وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، اجتمع مسؤولون من إدارة ترامب مع الحوثيين على هامش مباحثات السلام في السويد. لكن هذه المبادرة المستجدة لإنهاء النزاع في اليمن هي الأولى التي تقودها إدارة ترامب.

الحرب اليمنية التي مرت عليها أكثر من أربع سنوات، أصبحت عبئاً على المعنيين بها. أولاً، إدارة ترامب تحت ضغط الكونغرس، بجناحيه الديمقراطي والجمهوري، لوقف أي دعم تقدّمه للسعودية في هذه الحرب. وفي شهر إبريل/ نيسان الماضي، اضطر ترامب لفرض فيتوعلى مشروع قانون للكونغرس لإيقاف الدعم الأميركي للحرب في اليمن. كان هناك خلال الفترة الأخيرة قلق في الكونغرس من أن البيت الأبيض لا يستخدم نفوذه بما يكفي مع السلطات السعودية لوقف الحرب في اليمن، وبالتالي فإن إعطاء إدارة ترامب الانطباع بأنها جدية في إنهاء هذه الحرب يساعدها على تخفيف الضغط التشريعي على سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. وثانياً، السعودية تجد نفسها من دون أفق في حرب اليمن، لا سيما أن العاصمة صنعاء لا تزال تحت سيطرة الحوثيين، والبنى التحتية السعودية أصبحت في مرمى نيرانهم. وبعدما كان الهدف السعودي إبعاد إيران عن الساحة اليمنية، أصبحت العلاقة بين طهران والحوثيين أقوى خلال السنوات الماضية بعد التدخل السعودي.

ثالثاً، التباين السعودي – الإماراتي المستمر منذ سنوات في اليمن خرج إلى العلن في الفترة الأخيرة. في البداية كان القرار الإماراتي بالانسحاب من اليمن في يوليو/ تموز الماضي، وبعدها في 10 أغسطس/ آب الحالي باغت “المجلس الانتقالي الجنوبي”، المدعوم من الإمارات، حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، المدعومة من السعودية، وأحكم السيطرة على مدينة عدن الساحلية، في تكرار لسيناريو حصل في يناير/ كانون الثاني 2018. وفيما كانت السعودية تسعى بشكل رئيسي لحماية حدودها الجنوبية من هجمات الحوثيين، راكمت الإمارات، وعززت نفوذها في جنوب اليمن خلال السنوات الاخيرة. هذا التباين بين الرياض وأبوظبي مر بمحطات رئيسية، مثل قرار إقالة نائب الرئيس اليمني خالد بحاح المدعوم من الإمارات في إبريل 2016، واستبداله بالجنرال علي محسن الأحمر، المقرب من حزب “التجمع اليمني للإصلاح”. بعدها أعلنت الإمارات، في يونيو/ حزيران 2016، انتهاء العمليات العسكرية في اليمن، ما عزز قوة الحوثيين، وكان حينها من الأسباب التي دفعت الرياض إلى التفاوض معهم. والآن، تزامنت زيارة نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان إلى واشنطن مع ضربات جوية إماراتية على عدن لدعم “المجلس الانتقالي الجنوبي”، في وقت رفعت فيه حكومة هادي، خلال الأيام الأخيرة، سقف انتقاداتها للإمارات.

كل هذه العوامل جعلت إدارة ترامب تدخل، للمرة الأولى، على خط الحرب اليمنية، وتحاول إنقاذ حلفائها من المستنقع اليمني وحتى إنقاذهم من بعضهم البعض. هذه الجهود الأميركية يقودها الدبلوماسي المخضرم كريستوفر هينزل، المقرب من البنتاغون، والذي عينته إدارة ترامب سفيراً لليمن في إبريل الماضي، بعدما كان قائماً مؤقتاً بالأعمال في السفارة الأميركية في الرياض، ولم يكن له تأثير كبير، لأن القيادة السعودية ترفض أي لقاء مع شخصية دبلوماسية أقل من مستوى سفير. وقال هينزل، خلال جلسة التصديق على تعيينه في مجلس الشيوخ، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إن على واشنطن أن تكون مستعدة “ليكون لديها حضور قوي في اليمن الموحد، على الرغم من كل التهديدات المستقبلية التي قد تشكلها جهود إعادة الإعمار”. وهذا التصريح يتعارض مع سياسات البيت الأبيض الداعية إلى الانسحاب من المنطقة وتخفيف الأعباء المالية للسياسة الخارجية الأميركية.

كما لفت هينزل إلى أن الحرب في اليمن “عقّدت جهودنا المستمرة لمكافحة الإرهاب، وسهّلت طموحات إيران، وزادت من تهديد الأمن الإقليمي”. هينزل، المقرب من البنتاغون، سيبقى مقره في الرياض في مبنى السفارة الأميركية نفسه، ما يعطي مؤشراً على أن إدارة ترامب ترى الملف اليمني ضمن إطار العلاقة مع الرياض. وضمن فريق إدارة ترامب، يبقى البنتاغون من أكثر المتحمسين لإنهاء الحرب في اليمن. قائد القيادة الوسطى الجديد في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي قال، أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ في ديسمبر الماضي، إن الهدف الأميركي في اليمن هو التوصل إلى اتفاق سلام بين الحوثيين والحكومة اليمنية.

لكن هناك عوائق رئيسية قد تمنع التوصل إلى اختراق جدي وملموس في الأزمة اليمنية التي تزداد تعقيداً. فقناة اتصال الأميركيين هو على الأرجح المتحدث باسم الحوثيين محمد عبد السلام، والقنوات الخلفية تستكشف ملامح التسوية، وتُمهّد لإجراءات بناء الثقة، لكن ليس واضحاً كيف يمكن أن يسلّم الحوثيون صنعاء من دون تنازلات كبيرة من حكومة هادي، التي لم تعد تملك الكثير من أوراق القوة بعد انقلاب عدن الأخير. المشكلة في أي تسوية مقبلة أن الحوثيين يشعرون الآن بنشوة الانتصار، والنظام الإيراني قد يربط أي اختراق في اليمن بتسهيلات في الملف النووي مع واشنطن، وبالتالي قدرة الرياض على فرض شروطها على الحوثيين هي أقل مما كانت عليه مع بداية التدخل السعودي في العام 2015. كما أن هناك تبايناً داخل حركة “أنصار الله” حول ما إذا كان يجب الانخراط في تسوية في اليمن. ويبدو أنه مقابل مساعي التحاور مع أميركا والسعودية، قرر الحوثيون في 18 أغسطس/ آب الحالي، تعيين “سفير للجمهورية اليمنية” لدى إيران، في خطوة رمزية ليس لها تداعيات، لكنها توحي بأنه لا يجب المراهنة على إبعاد “أنصار الله” عن طهران.

زيارة خالد بن سلمان إلى واشنطن تعني أن هناك تلاقي مصالح بين واشنطن والرياض، فأميركا مهتمة بإنهاء الحرب في اليمن والسعودية مهتمة بإنهاء انقلاب عدن. والأهم من ذلك إدارة ترامب لا تريد أن يكون الخلاف السعودي – الإماراتي فرصة لتنظيم “القاعدة” ليستعيد نفوذه في اليمن. لكن يبقى هناك تمايز في الأولويات بين الطرفين. أميركا تريد فتح قنوات مع الحوثيين لتنفيس الاحتقان مع إيران، فيما السعودية يبدو أنها راغبة بأن تستمر واشنطن في سياسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على طهران. وهذا الفارق في الأولويات يجعل العمل المشترك بينهما في اليمن أكثر صعوبة. ليس واضحاً ما هي أولويات المرحلة المقبلة، هل أن تتحدث حكومة هادي مع “المجلس الانتقالي الجنوبي” أم مع الحوثيين، في وقت يبدو فيه أن لا “المجلس الانتقالي” مستعد للتخلي عن عدن ولا الحوثيين سيسلمون صنعاء؟