العدسة: محمد العربي

قتل وشلح وتجريد ووقف للرهنة وغلق أديرة وتفجيرات غامضة .. كلها عناوين ارتبطت بالكنيسة المصرية العتيقة خلال الايام الماضية بعد مقتل الأنبا “إبيفانيوس” رئيس دير أبو مقار بمحافظة البحيرة، واعتراف الراهب المعزول أشعياء المقاري بارتكاب الجريمة التي شهدها الدير الساخن نهاية يوليو الماضي.

ورغم أن الفاعل يكاد يكون معروفا منذ البداية إلا أن الخطوات التي اتخذتها الكنيسة الأم من خلال اجراءات صارمة للأنبا تواضروس الثاني بابا الاسكندرية وأسقف الكرازة المرقسية، تشير إلي أن الأمر أكبر بكثير من مقتل راهب داخل دير، أو وجود تجاوزات مالية لبعض الرهبان، حيث ظهر الأمر وكأن الكنيسة المصرية باتت علي موعد مع لعنة جديدة لكل الذين شاركوا في انقلاب 2013، ولذلك كان التساؤل الذي شغل الرأي العام وخاصة المهتمين بالشأن القبطي هو ما الذي يجري داخل الكنيسة المصرية.

شهادة من الداخل

وفي شهادة من داخل الأقباط يؤكد الصحفي جرجس فكري أن الكنيسة تعيش أزمة كبيرة هذه الأيام، خاصة فيما يتعلق برسامة الرهبان، مشيرا إلي أن البابا شنودة تعجل برسامة مجموعة من الرهبان وكان اختيارهم قائم على أساس الولاء وأنهم جنود مهمتهم الصدام مع رهبان آخرين لديهم أفكار أخرى، مشيرا إلي أن هذا الحادث كان يمكن ألا يحدث لو كانت هناك مساحة لتقبل ما يتم كتابته أو الحديث عنه عن وجود صراعات بين الرهبان في دير الأنبا مقار.

ويضيف فكري في عدة تدوينات بصفحته علي الفيس بوك أن ربط الدين برجل الدين يمثل أزمة في المجتمعات المتدينة، لأنه في هذه الحالة إذا فسد رجل الدين فالدين يفسد، وبالتالي ينزع من رجل الدين بشريته ويفرض عليه طبيعة ملائكية، فيرفض قبول أو سماع قصص عن أخطائه وهو ما يمثل ظلما لرجل الدين والدين نفسه ولصاحب المعتقد كذلك.

ما أشار إليه جرجس فكري يمثل أهمية للمتابعين للملف القبطي، خاصة وأنه صحفي من أبناء الكنيسة، بمعني أن ما يكتبه يترجم ما يقال في الغرف المغلقة، كما أنه يشير إلي حالة الصراع القديم المتجدد، بين مدرستين الأولي صاحبها البابا الراحل شنودة الثالث الذي كان يعتبر مدارس الأحد أحد ركائز صناعة مجتمع مسيحي ملتزم ومتدين، يستطيع من خلاله أن يكون رقما مؤثرا ضد توجهات الدولة سواء ما يخص شئون الأقباط أو قضايا الدولة الأخري التي يمكن أن يكون الأقباط طرفا فيها، وهو ما أدي لخلق مجتمع قبطي منغلق ومتطرف ينظر إلي أغلبية الشعب المصري من المسلمين باعتبارهم ضيوف لدي أصحاب الأرض الحقيقيين، وبسبب هذه المدرسة زادت الأزمات بين الأقباط والمسلمين من جانب والأقباط والدولة من جانب آخر، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكان من أبرز ظواهرها وفاء قسطنطين وأخواتها.

وأمام هذه المدرسة كانت المدرسة الأخري للأب متي المسكين الذين كان يعارض توجهات مدارس الأحد، وتوجهات شنودة نفسه، ما دعا شنودة بمنع طباعة كتبه وعظاته وفرض حالة من التضييق عليه وصلت لعزله في كنيسة صغيرة علي الطريق القاهرة الاسكندرية الصحراوي والذي تحول لمزار بعد موت الأب المشاكس.

وطبقا للمتابعين للملف القبطي فإن دير أبو مقار والذي كان مقرا للأب متي المسكين وتلاميذه، وهو الدير نفسه الذي وضعه شنودة تحت وصايته، وبعد وفاته استمرت الوصاية حتي تم تعيين الأنبا “إبيفانيوس” القريب من البابا تواضروس في رئاسة الدير، الذي شهد صراعات فكرية ومالية أدت في النهاية للتخلص من “إبيفانيوس”، وهو ما أشعل النار داخل الكنيسة المصرية.

قنبلة الرهبنة

المتابعون لتطورات الأحداث بالكنيسة أشاروا إلي أن تواضروس الذي توسع مثل سابقه شنودة في ترسيم الرهبان، وجد نفسه مضطرا لضبط الأمور مرة أخري، بعد أن أصبحت الرهبنة قنبلة موقوتة داخل الكنيسة، وهو ما دفعه لتبني كل قرارات لجنة الرهبنة والأديرة التي أصدرت 12 قرارا في محاولة لضبط الأمور مرة أخري، إلا أن هذه القرارات في حد ذاتها أصبحت مجال تساؤلات خاصة وأنها شملت وقف ترسيم الرهبان لمدة ثلاث سنوات، ومنع الرهبان من الحديث للإعلام، وكذلك منعهم من ممارسة أية أنشطة اقتصادية أو تجارية، ولعل الأهم فيها كان المتعلق بوقف أنشطة الأديرة التي لم تحصل علي موافقة رسمية من الكنيسة، ووقف أية أنشطة في الأديرة التي تم إقرارها بوضع اليد بعد إنقلاب 2013.

هذه الحالة التي باتت عليها الكنيسة دفعت البابا تواضروس إلي التأكيد علي أن الأديرة بخير، حيث دعا شعب الأقباط في عظته الأسبوعية لعدم الاهتزاز، مؤكدا أن هناك رهبان سقطوا فى الخطيئة ولكنهم عادوا بقوة، ومشيرا إلي أنه فى كل مجتمع يظهر يهوذا، وفي كل ١٢ شخص يظهر يهوذا، ويهوذا يمثل الخيانة بكاملها، وهناك خونة مثل يهوذا، داعيا شعب الأقباط بعدم الاهتزاز سواء من واحد انتحر أو لم ينتحر.

وطبقا للمتابعين فإن التوسع في ترسيم الرهبان أدي لزيادة الخلافات العقائدية بين أبناء الكنيسة، كما أدي لحالة جشع بين الرهبان أفقدتهم أهم مميزاتهم وهو الانعزال والتقشف، وباتوا طرفا في صفقات تجارية ومشاريع اقتصادية، وخرجت خلافاتهم العقائدية من الغرف المغلقة لساحات الأديرة، ونظرا لغياب دور الدولة في ضبط الأداء القبطي بعد انقلاب 2013 فإن كل مجموعة من الرهبان دخلوا في خلاف مع الكنيسة أو أحد مسئوليها، لجئوا لوضع أيديهم علي قطعة أرض بجوار أي كنيسة نائية وحولوها لدير، وهو ما أوجد نزاعا آخر بين الرهبان وصل لاستخدام السلاح لتأكيد احقية كل طرف في وضع يده، كما حدث في أحد أديرة أسيوط 2015، ولم يقف الأمر عند أتباع الكنيسة الواحدة، حيث تجاوز الصراع داخل الكنيسة الأرثوذكسية ليمتد بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، مما دفع بتواضروس لوصف مخالفيه من أتباع الكنائس الأخري وخاصة الكنيسة الكاثوليكية بالكفار الذين لا يعرفون العقيدة السليمة.

أين الدولة؟!

يري فريق من المحللين أن الأزمة الأخيرة للكنيسة كشفت عن تغير كبير في دور الحكومة وتحديدا وزارة الداخلية في التعامل مع الملف القبطي، فبعد أن كان جهاز أمن الدولة بوزارة الداخلية قبل 2011 علي علم بتحركات الأقباط، وكان يتعامل معها بالقوة حينا والتهدئة حينا آخر والإشعال حينا ثالثا، باتت وزارة الداخلية وبأوامر رئاسية إحدي هيئات دعم تحركات الكنيسة، حيث أغمضت الداخلية أعينها عن تجاوزات الأقباط المتعلقة بالاستيلاء علي أراضي الدولة بوضع اليد، وإقامة الكنائس والأديرة بدون الحصول علي التصاريح التي حددها القانون، وهو ما أدي للتوسع في إنشاء الأديرة والكنائس وتقنين أوضاعها بعد ذلك من خلال مراسيم يصدرها رئيس مجلس الوزراء، الذي شكل لجنة عليا لتقنين أوضاع دور العبادة للأقباط برئاسته.

وحسبما كتب الصحفي جرجس فكري علي صفحته بالفيسبوك ردا علي تسريبات بأن الراهب أشعياء المقاري تم إجباره علي الاعتراف بقتل رئيس دير أبو مقار، أكد فكري أن هذا الكلام خطئا، خاصة وأن التوجه العام للدولة في قضية مقتل الأنبا ابيفانيوس كان مساندا للكنيسة والبابا، وأن التعليمات التي صدرت للصحفيين كانت بعدم تشويه الكنيسة وأن أي صحفي خالف ذلك كان يقابل برد فعل عنيف، في ظل اهتمام الدولة بعدم إصابة الكنيسة بأي أذي في هذه القضية.

هذا الدعم دفع عدد من المراقبين للتشكيك في رواية الداخلية المتعلقة بالقبض علي خلية إرهابية خططت لتفجير كنيسة العذراء بمسطرد بمحافظة القليوبية ظهر السبت الماضي، مؤكدين أن الوضع تجاه الأقباط هادئا منذ فترة، كما شهدت الفترة الماضية غياب كامل لأعمال العنف سواء ضد وزارة الداخلية أو الكنائس، وأن تزامن هذا الحادث مع ما يحدث في دير أبو مقار، محاولة من الحكومة لإثبات برائتها من إشعال الفتنة داخل الكنيسة علي خلاف ما كان يحدث خلال حكم مبارك.

لعنة رابعة

فريق آخر ربط ما يجري داخل الكنيسة بقرب ذكري فض اعتصامي رابعة والنهضة، وأن ما يجري داخل الكنيسة هو أشبه باللعنة التي أصابتها نتيجة دعمها للإنقلاب الذي جري في يوليو 2013 علي يد وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، وكان الأقباط احد أهم داعميه بعد أن نزلوا بكثافة في الشوارع والميادين تلبية لنداء مظاهرات 30/6/2013.

ويري هذا الفريق أن الأقباط كانوا الأكثر فرحا في المجازر التي شهدها ميدان رابعة العدوية وطبقا لشهود عيان فإن أعداد كبيرة منهم زاروا الميدان صبيحة الفض يوم 15/8/2013 ووجهوا السباب والشتائم لأهالي القتلي الذين كانوا يبحثون عن جثث ذويهم بين أنقاض الفض، وبالتالي فإن لعنة كل الذين شاركوا في الإنقلاب وصلت لمحطة الأقباط بعد أن أصابت أخرين مثلوا دعما كبيرا لرئيس الإنقلاب عبد الفتاح السيسي.