تزامن اتساع دائرة الاحتجاج في الشارع الجزائري ضد الولاية الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، مع تردد أنباء عن عودة الطائرة التي كانت تقله من جنيف بدونه.

تلك الأنباء قد لا يمكن تفسيرها سوى في اتجاهين، أولهما أنه تراجع بالفعل عن الترشح تحت وطأة الضغط الجماهيري، والثاني أنها مناورة من الجيش ومنظومة الحكم لتهدئة الشارع الغاضب.

طائرة بوتفليقة

مساء الجمعة 1 مارس الجاري، قالت وسائل إعلام عالمية، إن طائرة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، غادرت جنيف قادمة إلى الجزائر دون أن يتواجد على متنها.

ونقلت شبكة “يورونيوز” الإخبارية عن مصدر رسمي جزائري تأكيداته أن طائرة الرئيس عادت من جنيف إلى الجزائر دون وجوده على متنها، وذلك بعد أن أعلنت الرئاسة الجزائرية أن بوتفليقة سيتواجد بجنيف لمدة 48 ساعة لإجراء فحوصات روتينية قبل أسبوع.

وأضاف المصدر، أن الرئيس الجزائري استدعى أمس مستشاره الدبلوماسي ووزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة إلى جنيف للتفاوض حول إمكانية تعيين الأخير رئيسا لوزراء البلاد.

وفي إشارة لإمكانية عدم ترشح بوتفليقة (81 عاما) لولاية رئاسية خامسة، قال المصدر، إن قائد الجيش الجزائري طلب من بوتفليقة البقاء في جنيف حتى يوم الثالث من مارس وهو آخر يوم لتقديم أوراق الترشح الرسمية.

جاءت تلك الأنباء في ختام يوم حافل خرجت خلاله حشود ضخمة قدرت بمئات الآلاف من الجزائريين في مظاهرات عارمة بالعاصمة، رفضا لترشح بوتفليقة لولاية خامسة.

وعمت مسيرات في مختلف أحياء العاصمة والولايات والمدن، رفعت شعار السلمية رافضة أي احتكاك مع قوات مكافحة الشغب والدرك الوطني، فيما ردد المتظاهرون هتافات رافضة للسلطة الحالية داعين إلى “جزائر جديدة”.

ووقعت مواجهات بين قوات الأمن ومتظاهرين قرب القصر الرئاسي، كما أطلقت الشرطة الغاز المسيل على محتجين، وسط العاصمة.

وشهدت المظاهرات نزول شخصيات وطنية تتقدمهم أيقونة الثورة التحريرية (1954-1962) جميلة بوحيرد رفقة رؤساء أحزاب المعارضة ونواب في البرلمان الجزائري.

تأتي المسيرات في ثاني موعد للتظاهر بعد مسيرات يوم الجمعة الماضية 22 فبراير، قبل يومين من انتهاء الآجال القانونية لوضع المترشحين للرئاسة الجزائرية ملفات الترشح للمجلس الدستوري.

لعبة الاحتمالات

أثارت أنباء عدم عودة الرئيس الجزائري من رحلة علاجه جدلا واسعا مصحوبا بموجة من الترقب والتكهنات، تتحدث عن مدى صحة تلك الأنباء من ناحية، وما يترتب على ذلك من ناحية أخرى.

ولعل محاولة تأويل الأنباء المنتشرة تقود بداية إلى فرضية صدقها، أي أن ما صرح به المسؤول المجهول حقيقي، ولعل ما يعزز من تلك الفرضية أنه لا جهة رسمية في الدولة نفت ما نُشر حتى الساعة.

وبافتراض صحة ما قيل، فإننا هنا على موعد مع تراجع تاريخي اضطر إليه الرئيس الجزائري ومنظومة الحكم، تحت وطأة الضغط الجماهيري، بعد أن تبين لهم أن الجزائريين مصممون على رفض الولاية الخامسة.

الرهان كان معقودا منذ تظاهرات الجمعة 22 فبراير على إمكانية اتساع دائرة الاحتجاج وشموله طبقات جديدة، وزيادة أعداد المشاركين به، كاختبار حقيقي لمدى نجاح الشارع في فرض إرادته وإجبار بوتفليقة ومنظومته على التراجع.

التراجع المحتمل لبوتفليقة يعيد إلى الأذهان تصريحات مثيرة أطلقها عبدالرزاق مقري زعيم حركة مجتمع السلم، أكبر أحزاب المعارضة الجزائرية، كشف خلالها تفاصيل لقائه بالسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس.

وبحسب اللقاءات التي تمت بين نوفمبر وديسمبر الماضيين، رأى مقري أن بوتفليقة يريد خروجا مشرفا من السلطة، قائلا: “بالنسبة لي الرئيس يريد تنظيم خروجه، نحن أمام واقع مغاير لذلك الذي كان في انتخابات 2014”.

وعليه فإن السيناريو في هذه الحالة يشير إلى توافق منظومة الحكم ورغبة الرئيس وعائلته في عدم الترشح لولاية خامسة، لعاملين أحدهما مسألة الخروج المشرف والأخرى الأقوى تأثيرا غضبة الشارع الجزائري.

حينها قد يظهر بوتفليقة في صورة البطل القومي الذي رفض أن يستمر في موقعه رغما عن إرادة الشعب، وفضل أن يبتعد عن المشهد، على أن تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.

الجيش يناور

أما الاحتمال الثاني الأقرب إلى الواقعية، هو أن تكون تلك الأنباء عن عدم عودة بوتفليقة مجرد بالون اختبار أطلقه الجيش، لجس نبض الشارع الثائر.

ولا يمكن استبعاد فرضية قيام الجيش بمناورة سياسية عبر تسريب هذا الخبر لامتصاص غضب الشارع وتهدئة المحتجين، وكأنه تمت الاستجابة لمطالبهم بشكل غير مباشر

يعزز من تلك الفرضية، الدور السياسي الذي تقوم به الجيوش غالبا في الدول العربية، الأمر الذي كانت له انعكاسات مختلفة حسب كيفية لعب هذا الدور في ثورات الربيع العربي.

لكن تبقى الأزمة، إذا اختفى بوتفليقة عن المشهد وقرر عدم الترشح لولاية خامسة، هل يترك الجيش ومنظومة الحكم الساحة خالية أمام المعارضة، ربما لإعادة إنتاج النموذج المصري عقب ثورة يناير 2011، أم يتحركان لتقديم خليفته؟.

بحسب تقرير نشرته مجلة The Economist البريطانية فإن قرار ترشح بوتفليقة، ومن ثم فوزه من عدمه يرجع إلى عصبة الجنرالات ورجال الأعمال والسياسيين، المعروفة باسم “السلطة- le pouvoir” الذين يحكمون الجزائر.

تلك العصبة الحاكمة هي التي أبقت بوتفليقة في السلطة رغم حالته الصحية، وعليه فإن جميع السيناريوهات السابقة تبدو مرهونة بموقف العصبة الحاكمة، ولا يمكن أيضا في هذا السياق تجاهل السعيد شقيق الرئيس، الذي يمارس فعليا كل سلطات الرئيس منذ 2013.

وجود “السعيد” ضمن أية مخططات للعصبة الحاكمة كخليفة لشقيقه، قد يربك جمييع الحسابات، خاصة أن تلك السلطة لن تجد من هو معروف إليها وتضمن ولاءه وعدم خروجه عن السيطرة مثله.

أما السيناريو الآخر قد يأتي من الجيش بمفرده، حيث لا يستبعد أيضا أن يسيطر على مقاليد الأمور وربما يلغي الانتخابات أو يؤجلها تحت شعار عدم انزلاق البلاد في الفوضى.

تلك الحالة “حكم الجيش” قد تستمر إلى مدى لا يعلمه إلا الله،وقد تكون مؤقتة لحين اتفاق العصبة الحاكمة على خليفة بوتفليقة.

وكما كان موقف الشارع هو المحرك الرئيسي للمعادلة الآن، فإن كلمته ستكون فاصلة في تحديد مستقبل البلاد بعد بوتفليقة، وهل يقبل بسيطرة الجيش أم يطالب بحرية يتطلع إليها أبناء بلد المليون شهيد؟.