العدسة – منصور عطية

بدأ المغرب فعليًّا تطبيق نظام مرن لسعر صرف الدرهم (تعويم تدريجي للعملة الوطنية) وسط أهداف رسمية معلنة، وتطمينات حكومية بألا تنعكس السياسة الجديدة سلبًا على أسعار السلع الأساسية.

اللافت، أن النظام الجديد يتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لهبوب رياح ثورات الربيع العربي على المنطقة، والتي نجح المغرب في تفاديها بسياسات وإجراءات وقائية جنبته أن يصير إلى ما صار إليه الجيران في تونس وليبيا وغيرهما في المنطقة.

فهل تشكل مخاوف المغاربة من مآلات التعويم- مضافة إلى زخم شعبي لم ينقطع، احتجاجًا على الأوضاع المعيشية- بيئة مواتية لاشتعال موجة ثورية جديدة في البلاد؟ أم تنجح السلطات كعادتها في امتصاص الغضب والعبور إلى بر الأمان؟.

شبح التجربة المصرية!

مخاوف المغاربة تحديدًا، كانت من زيادة التضخم، ولا سيما في الوقود والأغذية والأدوية، ومع دخول النظام الجديد حيز التنفيذ، يتزايد قلقهم من تفاقم الأوضاع المعيشية، ويأتي الوقود في مقدمة السلع التي قد ترتفع بشكل حاد، إذ يعد المغرب من أكبر مستوردي الطاقة بالمنطقة، ما سيضع الحكومة في موقف صعب بمواجهة موجة غلاء مرتقبة، في الوقت الذي تعاني فيه من احتجاجات على المشاكل الاقتصادية في المناطق النائية.

وبات اتجاه أسعار النفط في السوق الدولية للارتفاع لا يخدم موقف المغرب في توجهاته المالية والاقتصادية الجديدة، وارتفعت مشتريات المغرب من منتجات الطاقة بنسبة 36.2%، في النصف الأول من عام 2017، لتقفز إلى 3.36 مليارات دولار.

وساهمت مشتريات الطاقة في بلوغ عجز الميزان التجاري نحو 9.3 مليارات دولار، في نهاية يونيو الماضي، حسب بيانات مكتب الصرف (حكومي)، الأمر الذي يثير مخاوف محللين من تداعيات البدء في الانتقال للسعر المرن للدرهم، الذي يفاقم من فاتورة الواردات.

ارتفاع أسعار الوقود وزيادة فاتورة الاستيراد يؤثران بشكل مباشر على أسعار السلع والخدمات الأساسية، الأمر الذي ينذر بموجات متلاحقة من الارتفاعات قد لا تستطيع أدوات الحكومة الرقابية مواجهتها.

وستكون صناعة الأدوية بالمغرب، من أكثر القطاعات انشغالا بالانتقال من سعر الصرف الثابت إلى سعر الصرف المرن في الفترة القادمة، بالنظر لارتهانها من أجل توفير الأدوية لمواد أولية تشتريها من الخارج.

وحسب مسؤولين حكوميين، فإن خطوة التحول لسعر مرن للدرهم تهدف إلى توفير حماية أكبر للاقتصاد من الصدمات الخارجية، والحفاظ على التنافسية، ومن المتوقع أيضاً أن يساهم هذا التحرك في دعم الصادرات وتعزيز إيرادات السياحة، كما ستدعم الخطوة تحويلات 4.5 ملايين مغربي يعيشون في الخارج، معظمهم في منطقة اليورو.

ولعل شبح التجربة المصرية يظل ماثلا أمام المغاربة في قضية تحرير سعر صرف العملة المحلية، حيث لا يخفى على الجميع ما آلت إليه الأوضاع المعيشية في مصر بعد عام وعدة أشهر من قرار تعويم الجنيه، حيث أعقبته مجموعة من القرارات التي وُصفت بالصعبة، رفعت مستوى التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، مصحوبة بارتفاعات متتالية للوقود، وزيادة في فواتير الاستهلاك المنزلي من الكهرباء والمياه، وموجات متلاحقة من الارتفاعات القياسية بأسعار السلع والخدمات الأساسية.

هذا الشبح المصري ربما يهدد بأن يسفر التوجه المغربي الجديد عن موجة احتجاجية تتسع بتفاقم مآلاته، وصولًا إلى ما يمكن مقارنته بتلك الموجة التي نجا منها المغرب عام 2011.

كيف نجا المغرب؟

في عام 2011، هبّت رياح الربيع العربي على المغرب كبقية البلدان؛ فشهد بوادر ثورة تتوافر شروطها الموضوعية كافة، وتحدد موعد أول تظاهرة، يوم 20 فبراير 2011، وأصبح اسمًا لحركة الاحتجاج المستمرة حتى اليوم بوتائر مختلفة.

تلك الحركة دفعت العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى إلقاء خطاب 9 مارس، الذي تعهد فيه بتحويل النظام إلى ملكي دستوري، وبالتزامه بأن تكون الحكومة حقًا للحزب الفائز في الانتخابات العامة.

ويُحسب للمغرب تبنيه سياسة مغايرة، استفادت من دفعة الربيع العربي، وأعطت للمملكة دستورا جديدا عام 2011، ووضعا استثنائيا في المنطقة، فقد تبنى المغاربة -بمبادرة من ملكهم محمد السادس- دستورا جديدا، أتاح انتخابات ديمقراطية، أفرزت عام 2012، برلمانا تصدره حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية.

وتواصلت التجربة على هذا الأساس في انتخابات جهوية وبلدية لاحقة، ثم في انتخابات نيابية قبل نهاية 2016.

لم تكن المواجهة داخلية فقط -بتحسين الظروف السياسية في البلاد لتفادي رياح الربيع العربي- بل بدور إيجابي جسده ملك المغرب في مساندة الثورات المجاورة.

فقد شجعت الدبلوماسية المغربية دعم المسارات والحلول السلمية، ورأب الصدع بين أبناء البلد الواحد، كما هو الحال في الأزمة الليبية، حيث بلغت شهرة “الصخيرات” في ليبيا ما لم تبلغ شهرة أي مدينة أخرى، فالمدينة المغربية الصغيرة على ضفاف الأطلسي، احتضنت منذ مطلع 2015 جولات متتالية من مفاوضات السلام بين الفرقاء الليبيين تحت رعاية أممية، وذلك بحثا عن تسوية سياسية للأزمة الليبية.

تونس مهد الربيع العربي، والبلد القريب للمغرب، عاشت فترة انتقال ديمقراطي، بعد إسقاط الثورة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وخلافا لاتجاهات العديد من الأنظمة السياسية في المنطقة العربية، اختارت المملكة المغربية دعم خيار الشعب التونسي.

وبالإضافة الى دعم الديمقراطية وتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، كان هم تحريك قطار المغرب العربي حاضرا وبقوة في الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس أمام المجلس الوطني التأسيسي، يوم 31 مايو 2014.

ومن داخل قبة مبنى البرلمان التونسي، دعا الملك إلى ما أسماه “نظاما مغاربيا جديدا”، على أساس روح ومنطوق معاهدة مراكش المؤسسة للاتحاد المغاربي، حيث “لم يعد (هذا الاتحاد) أمرا اختياريا أو ترفا سياسيا”، بل “مطلبا شعبيا ملحا وحتمية إقليمية إستراتيجية”.

كما ساندت الرباط اختيار الشعب السوري للحرية، واتخذت بالخصوص قرارات سياسية وأخرى إنسانية.

فرص النجاح والمواجهة؟

الحركة الاحتجاجية المتوقعة ردًّا على ما ستسفر عنه تجربة تعويم الدرهم وما يعقبها من قرارات اقتصادية، ربما سوف تستفيد من زخم لم يفقده الشارع المغربي بعد، انطلقت معه تظاهرات شعبية قبل نحو 6 أشهر، بعد دهس الشرطة لبائع سمك فقير يدعى “محسن فكري” في سيارة قمامة؛ بسبب اعتراضه على مصادرة بضاعته من الأسماك التي يعتاش من بيعها على عربة متجولة.

تأسيسًا على هذا الحراك المشتعل، فإن الأمور تبدو مرشحة لمزيد من الاشتعال، تتسع معه الحركة الاحتجاجية، خاصة إذا ذاق المغاربة ويلات الظروف المعيشية الصعبة المترتبة على القرارات الاقتصادية.

هذه الموجات الاحتجاجية تعيد إلى الأذهان مثيلاتها المتزامنة مع ثورات الربيع العربي، وفي الوقت نفسه تجعل الأنظار متوجهة إلى القيادة السياسية في البلاد وتعاملها مع أية احتجاجات مستقبلية.

فهل تكون المواجهة على غرار 2011، بتوجهات سياسية واقتصادية جديدة تمتص غضبة المغاربة؟ أم تتراجع الحكومة عن قراراتها؟ أم تشهر سيف القمع الأمني في وجه المحتجين لتدخل البلاد إلى مصير مجهول؟.