العدسة – منصور عطية
هل يذوب جبل الجليد المتراكم منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بين أنقرة وبرلين؟.. تساؤل أفرزه إلى السطح خبر الإفراج عن الصحفي الألماني-التركي مراسل صحيفة “دي فيلت” الألمانية “دينيز يوجيل” من محبسه في تركيا.
لقاءات مثمرة
المتحدث باسم الخارجية الألمانية أعلن، الجمعة، من العاصمة برلين نبأ الإفراج عن الصحفي بعد عام من السجن على خلفية اتهامات بالإرهاب، بدون توجيه دعوى جنائية ضده.
الإفراج عن الصحفي مزدوج الجنسية، جاء بعد مجموعة من المبشّرات التي كانت تقود إلى تحسن في العلاقات بين البلدين، كما ألمحت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” عقب لقائها رئيس الوزراء التركي “بن علي يلدريم” في برلين الخميس، أنها ألمحت له بـ”أن هذه القضية ملحة للغاية بالنسبة لنا”.
وفي مقابلة أجرتها معه القناة التلفزيونية الألمانية الأولى (ARD)، قبل اللقاء بيوم واحد، علق “يلدريم” على علاقات بلاده مع ألمانيا بالقول: “أعتقد أنه حان الوقت لفتح صفحة جديدة”.
وأضاف: “دعونا نفتح صفحة جديدة، وننسى الماضي، وننظر إلى المستقبل ونوسع العلاقات”.
وفي مؤتمر صحفي مشترك عبرت “ميركل” عن ارتياحها إزاء تصريحات يلدريم، حول استعداد بلاده حل خلافاتها مع ألمانيا، وقالت إن ذلك “سيتم خطوة خطوة”.
وشددت على أهمية العلاقات بين البلدين، والحفاظ على القيم المشتركة بينهما، معتبرة أن زيارة يلدريم، (إلى ألمانيا) تشير إلى استعداد الجانب التركي للتفاوض بخصوص الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وهكذا يمكن الربط بين الإفراج عن الصحفي المحتجز كأحد ملامح الأزمات بين البلدين، وبين ما أبداه المسؤولون هنا وهناك من رغبة في تجاوز الوضع الحالي بين الدولتين العضويين في حلف شمال الأطلسي “ناتو”.
أسباب الأزمة وملامحها
تاريخيًا، بدأت إرهاصات أولى التوترات بين البلدين في مارس 2016، بعدما بث أحد البرامج الألمانية أغنية مصورة للسخرية من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وما قالت إنه قمع للصحفيين.
لكن البداية الحقيقية كانت باعتراف البرلمان الاتحادي الألماني في يونيو 2016، بتورط الدولة العثمانية في المجازر التي تعرض لها الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915.
وعلى خلفية الأمر، استدعت أنقرة سفيرها لدى ألمانيا للتشاور بشأن هذا القرار، وانتقد أردوغان ملمحًا إلى ألمانيا الدول “التي تحاول إعطاء تركيا دروسًا في حقوق الإنسان، في حين أن تاريخها في القارة ملطخ بالمجازر والإبادة الجماعية والدموع والدماء”.
تركيا ردت حينها بمنع برلمانيين ألمان في يوليو من زيارة جنود بلدهم في قاعدة “إنجرليك” الجوية التركية في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة “داعش”.
التحضير لاستفتاء التحول للنظام الرئاسي في تركيا أبريل الماضي، جدد الخلافات مرة أخرى عندما منعت ألمانيا ساسة أتراكًا من الحديث في تجمعات للأتراك المقيمين هناك، واتهم أردوغان برلين حينها باستخدام أساليب “تشبه سياسات النازي”.
الأمر الذي أثار غضب الحكومة الألمانية لتبدأ فعليًا في يوليو الماضي بسحب قواتها من قاعدة “إنجرليك” باتجاه قاعدة الأزرق الأردنية، والتهديد بسحب قوات ألمانية أخرى ترابض في قاعدة عسكرية بمدينة قونيا جنوب تركيا، لكنها ترتبط بحلف الناتو.
وبينما ترتكز ألمانيا في خلافها على اتهام تركيا بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، تقول أنقرة إن برلين تدعم “جولن” وتؤوي “إرهابيين” مناهضين لتركيا من بينهم ضباط في الجيش طلبوا اللجوء إلى ألمانيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.
لماذا لا تتعقد الأزمة؟
وعلى الرغم من ضخامة نقاط الخلاف وعمق الأزمات بين البلدين، إلا أن كلاهما تدفع باتجاه عدم تجاوزها خطوطا حمراء مفترضة، تجعل كلا الطرفين حريصا على الاحتفاظ بعلاقات قوية لأغراض تختلف فيما بينهما.
تتمتع تركيا بأهمية خاصة كنقطة ربط بين أوروبا وآسيا علاوة على أهميتها الإستراتيجية كجارة لليونان وبلغاريا من ناحية، وسوريا والعراق وإيران من ناحية أخرى؛ أي أنها تقع على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه جوار مناطق مشتعلة في الشرق الأوسط.
تركيا ترى ألمانيا هي أوروبا وهي العنصر المؤثر والفاعل الحقيقي في القرار الأوروبي، بينما ترى ألمانيا أن تركيا هي بوابة الشرق والحليف الأكثر مصداقية في تأمين الحدود الشرقية وقضايا الإرهاب واللاجئين، والجالية التركية في ألمانيا هي أكبر جالية إسلامية وثاني أكبر جالية في عموم البلاد.
ثمة العديد من الأمور التي تدفع البلدين إلى الحفاظ على العلاقات هكذا بين تهدئة وتصعيد، لكن لا ترقى أبدًا إلى القطيعة الكاملة، رغم التهديدات بهذا الشأن.
اتفاق اللاجئين يبدو في مقدمة هذه الأمور، التي تجبر البلدين على التهدئة، فبينما يشكل تدفق اللاجئين على أوروبا إذا فتحت تركيا حدودها أمامهم تحديًا ضخمًا يُعجز ألمانيا، فإن أردوغان لن يخاطر بتنفيذ تهديده بتجميد الاتفاق، لحاجته الدائمة لاستخدام تلك الأزمة كورقة ضغط على أوروبا في إطار المفاوضات الدائرة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
ووفقا لأنقرة فإن تركيا استقبلت نحو 2.7 مليون لاجئ منذ بداية الأزمة السورية.
العلاقات الاقتصادية بين تركيا وألمانيا، ربما تجعل كلاهما غير قادر على التضحية بأكثر من 35 مليار دولار هي قيمة التبادل التجاري بين البلدين، حيث تتصدر ألمانيا وجهات الصادرات التركية، فيما تحتل برلين المركز الثالث في قائمة الاستيراد التركية.
وتعتبر ألمانيا أكثر الدول المصدرة للسياح إلى تركيا، حيث بلغ عدد السياح الألمان عام 2015 أكثر من 5.5 مليون سائح، يساهمون بنحو 10% من عائدات القطاع التي بلغت نحو 28 مليار دولار عام 2015.
ويرجع انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى عام 1952، كما أن الجيش التركي يعد من أكبر جيوش العالم؛ إذ يبلغ قوامه نحو 640 ألف جندي وموظف، وفقا لتقرير وكالة الأنباء الألمانية، وبالتالي فهو يحمل أهمية في التصدي لتنظيم داعش.
اضف تعليقا