العدسة _ جلال إدريس
شغلت فكرة الموت تفكيره طوال حياته، خاصة بعد أن توقف قلبه 4 مرات، لكنه كان في كل مرة يعود لينبض بالحياة من جديد، إلى أن جاءت المرة الأخيرة التي توقف فيها قلبه عن النبض، لكنه لم يعد للحياة مجددًا، ليُغَيِّب الموتُ عن عالمنا واحدًا من أفضل الروائيين المصريين، بل إن شئت قل واحدًا من أفضل الروائيين العرب.
إنه الكاتب الكبير الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي رحل عن الحياة، الاثنين 2 أبريل، عن عمر يناهز 55 عامًا، تاركًا خلفه جيلًا كاملًا تربى على كلماته، وتأثر بقصصه وشخصياته.
الروائي الشهير استطاع بموته -كما في حياته- أن يجمع قلوب محبيه على اختلاف أعمارهم وتوجهاتهم، لتضج مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات التعازي ودعوات الرحمات للكاتب الكبير من كل الأطياف، وهي ظاهرة أصبحت نادرة الحدوث في مصر، خصوصًا بعد الاستقطاب الحاد الذي حدث في مصر، خلال سنواتها الأخيرة.
أحمد خالد توفيق فراج، طبيب وأديب مصري، ويعتبر أول كاتب عربي في مجال أدب الرعب، والأشهر في مجال أدب الشباب والفانتازيا والخيال العلمي، ويلقب بـ”العراب” و”الغريب”.
ميلاده ونشأته
وُلِد أحمد خالد توفيق-أو “العرّاب” كما يطلق عليه- في 10 يونيو 1962، بمدينة طنطا، وتخرج من كلية طب طنطا عام 1985، وحصل على الدكتوراه في طب المناطق الحارة، عام 1997.
انضم عام 1992 للمؤسسة العربية الحديثة، وبدأ بكتابة أول سلاسله “ما وراء الطبيعة”، في شهر يناير من العام التالي.
تزوج “توفيق” من طبيبة أخصائية صدر، من المنوفية، اسمها منال، ولديه منها ابن اسمه محمد وابنة اسمها مريم.
بداياته الأدبية
بدأ أحمد خالد توفيق كتاباته، بأول عدد من سلسلة “ما وراء الطبيعة” في يناير 1993، عن المؤسسة العربية الحديثة.
أثرت دراسته للطب على طريقة كتاباته وشخصياته، فأول شخصية له هو العجوز رفعت إسماعيل، كان طبيبًا لأمراض الدم، وكذلك ناقش فترة التكليف للطبيب في المناطق الريفية في كتابه الساخر “الطريف في طب الريف”، كما أنه جعل أحمد عبد العظيم -بطل سلسلة سافاري- طبيبًا يعمل في الكاميرون، حيث يسيطر طب المناطق الحارة والعديد من الأمراض، وركز في هذه السلسلة على الكثير من الأمراض وأسبابها وتاريخها.
انضم أحمد خالد توفيق للمؤسسة بأن أرسل أولى رواياته “أسطورة مصاص الدماء” التي لم يعجبوا بها هناك، لمجالها المختلف من الرعب، ونصحوه هناك بالاتجاه للمجال الأدبي البوليسي أفضل، لكن قام الأستاذ حمدي مصطفى – رئيس المؤسسة – بمقابلته وتشكيل لجنة أخرى لدراسة الرواية؛ كان من ضمن أعضاء اللجنة الروائي “نبيل فاروق” الشهير بسلسلة “رجل المستحيل”، والذي قال عن الرواية: ” الأسلوب ممتاز، ومترابط، به حبكة روائية، فكرة القصة واضحة، وبها إثارة وتشويق”.
تأثيره على الشباب
يعتبر أحمد خالد توفيق، أديب الشباب الأول في الوطن العربي، والذي حبّب الكثير في القراءة برواياته المشوقة وأسلوبه المتميز والساخر وشخصياته الفريدة، مثل رفعت إسماعيل، ولقربه من الشباب فكريًّا وتواصله الدائم معهم، كما أن رواياته دائمًا ما تتناول الشعب المصري وما قد يحدث للبلاد في المستقبل.
نجحت سلسة الرعب نجاحًا كبيرًا، رغم عدم انتشار هذا النوع من الأدب في الوطن العربي، وبدأ في كتابة سلاسل أخرى للمؤسسة نفسها، مثل سلسلة “سافاري”، وسلسلة “فانتازيا”، وسلسلة “روايات عالمية للجيب”، غير بعض الأعداد الخاصة وبعض الروايات مثل “يوتوبيا”، و”السنجة” لدور نشر أخرى.
واشتهر “توفيق” كذلك بكتابة مقالاتٍ سياسية واجتماعية دورية في العديد من الصحف والمجلات العربية، مثل اليوم الجديد، والتحرير الإخباري، وإضاءات، وبص وطل؛ كما أنه يحب الترجمة، ومن أشهر أعماله الرواية العالمية “Fight Club” والتي ترجمها باسم “نادي القتال” عن دار ميريت للنشر، وأعادت دار ليلى نشرها بعدها بعام.
“توفيق” وأدب الرعب
وفي واحدة أيضًا من مفارقات الكاتب الأدبية، أنه تنبأ بأزمة الدولار، واختفاء الأدوية في رواية “يوتيوبيا”، التي كتبها عام 2008، وتوقع نهاية مصر عام 2023، لكنه ترك النهاية مفتوحة.
وبحسب أدباء ومثقفين، فيمكن القول بكل ثقة أن رواية «يوتوبيا» هي الرواية الأكثر رعبًا في الأدب العربي، وهو الأمر الذي لا يتعلق بمقاييس الرعب التي نعرفها، الرعب المعنوي أو النفسي أو حتى الذي يتحدث عن التيمات المعروفة التي استهلكها الجميع، وإنما هو رعب الكابوس الذي نكتشف أنه ليس كابوسًا، بل هي تنبؤات حقيقية تحدث في مفارقة غريبة من نوعها.
ففي هذه الرواية الصادرة عام 2008، توقع د. أحمد خالد نهاية مصر كما نعرفها في عام 2023، وقال إنه وقبل تلك النهاية، سيعيش الأغنياء في “كومباوندات” مغلقة عليهم، بعيدًا عن الرعاع الذين تعج بهم شوارع مصر، يأكل بعضهم بعضًا من الفقر، وهناك في هذا العالم البعيد المغلق، الأغنياء يرتعون في الملذات والحياة الرغدة التي لا يمكن تصورها، وهو ماربطه البعض بالعاصمة الإدارية التي يشرف النظام الحالي في مصر على إنشائها.
كما توقع الدكتور أحمد أن يتم تعويم الجنيه، وأن يصل سعره أمام الدولار لثلاثين جنيها عام 2023، في وقت كان سعر الدولار في عام 2008 خمسة جنيهات، ولم يكن أحد حينها يتخيل أن يصل سعر الدولار لتلك الزيادة، واليوم لم نصل للعام 2023 وقارب الدولار من العشرين جنيها.
مواقفه السياسية
بعكس كثير من الكتاب والمثقفين، لم يعادِ الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق ثورة يناير، لكنه ساندها وناصرها منذ بدايتها، وكانت روايته تقرأ داخل ميدان التحرير بشغف طوال الـ 18 يومًا من عمر ثور يناير في الميدان.
ورغم حالة الاستقطاب السياسي الشديد الذي ضرب مصر بعد ثورة يناير، لم ينجرف الرجل إلى مستنقع النفاق والتطبيل وممالأة الأنظمة المتعاقبة على مصر بعد الثورة.
وعقب الانقلاب العسكري في مصر، في الثالث من يوليو 2013، لم يداهن الرجل أو ينافق الانقلاب العسكري والقائمين عليه، لكنه كان رافضًا لإسالة الدماء، حتى مع من يعارضهم، وبهذا لم يجد “توفيق” حظه من وسائل الإعلام المؤيدة للسلطة بعد الانقلاب.
وبعد فض اعتصام رابعة، وإراقة دماء الكثير من المصريين، عبر “توفيق” عن رفضه لتلك المجزرة، وطالب بمحاكمة المتسببين فيها والقائمين عليها، في وقت كان من يتجرأ فيه ويندد بهذه الجريمة يتهم بالإرهاب ويحاكم وفقا لهذا الاتهام.
مرض القلب والموت
كانت فكرة الموت تسيطر دائمًا على “توفيق” خصوصًا بعدما أصيب بنوبتين قلبيتين؛ الأولى في 2011، والثانية في 2015، نتج عنهما أن أجرى جراحة زرع جهاز مهمته مراقبة النبض، فإذا شعر باضطراب في القلب أطلق صدمة كهربائية تعيد القلب للحياة مرة أخرى، وأجبره الأطباء على الإقلاع عن التدخين.
وما يثير الدهشة أن الكاتب “أحمد خالد توفيق” ذكر في إحدى رواياته الشهيرة، وهي رواية “قهوة باليورانيوم”، أنه سوف يموت في 3 أبريل، ويدفن في مسقط رأسه في هذا اليوم، وهو ما حدث بالفعل، في مفارقة غريبة ومثيرة.
ففى الصفحة 62 من الرواية، بدأها “توفيق” قائلا: “اليوم، كان من الوارد جدًّا أن يكون موعد دفني هو الأحد 3 أبريل، بعد صلاة الظهر.. إذن كان هذا هو الموت، بدا لي بسيطًا ومختصرًا وسريعًا، بهذه البساطة أنت هنا، أنت لم تعد هنا، والأقرب أنني لم أر أي شيء من تجربة الدنوّ من الموت التي كتبت عنها مرارًا وتكرارًا، تذكرت مقولة ساخرة قديمة، هي أن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شابًّا”.
وبعد 55 عامًا قضاها “توفيق” بين الطفولة والطب والأدب والمرض، قضى الرجل نحبه، في الثاني من أبريل 2018، ليدفن في مسقط رأسه بطنطا، بينما تظل روايته عالقة في أذهان كل من طالعها واستمتع بما فيها من أدب وخيال وعلم.
اضف تعليقا