كيف تكتب مقالًا في ثلاثين دقيقة؟ كيف تكتب قصيدةً في ساعة؟ كيف تكتب رواية في أربعة أسابيع؟ كيف تنشر ثلاثة كتبٍ في عام واحد؟ كيف وكم وأين وماذا.. وكأن الكتابة طبقٌ شعبيٌّ أو وصفة لإزالة البقع السوداء من الوجه أو الملابس، في امتهانٍ لعظمتها وتقليلٍ من شأنها وتبديدٍ للإرث الذي تتركه في النفوس والعقول والأماكن.
يسألني صديقٌ لي، أحبَّ الأمرَ ورأى فيمن يملكه نبيًّا يملأ المسامع بالجمال، كيف أكتب؟ يعني ما الظروف الزمانية والمكانية المناسبة لأخرجَ نصًّا أدبيًا؟ وهو يَسأل ما لا يُسأل! ومَن ليس جديرًا بأن يجيب. لكنْ كطفلٍ صغيرٍ يجيب بالفطرة؛ قلتُ له: إنَّ الكتابةَ شبيهةٌ بالطبخ، المطاعم كثيرة، والملاعق كلها صوتها واحد، لكن لا طعامَ أبدًا يشبه طعامَ أمّك! وأمّك في الكتابة هي المشاعر، ونفَسُها في كل طبقٍ هو الإحساس، وصبرُها على الطعامَ حتى ينضج، هو صبرك على الكلمات حتى تخرجَ ورائحتها تسبقُها إلى قلوبِ المتذوقين قبل عيونهم وآذانهم.
تقول السيدةُ رضوى عاشور آنسَها الله -ولا وحشة بأُنسِ الله في قبر رضوى-: “أكتب لأني أحب الكتابة، أقصد أنني أحبها بشكل يجعل سؤال “لماذا” يبدو غريبا وغير مفهوم. في عام 1980، على فراش النقاهة بعد أزمة صحية ممتدة أمسكتُ القلمَ وكتبت: “عندما غادرتُ طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي وجدتُّ بداخله هزيمتها، بكيتُ ولكني بعد بكاء وتفكير أيضا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: “ماذا لو أن الموت داهمني؟” ساعتها قررت أنني سأكتب لكي أترك شيئا في منديلي المعقود”.
ورحلت رضوى ولم ترحل، وأجابت على السؤال الذي كان أكثر تعقيدًا من أن يجيب عليه أحدُهم في سطرين ببساطة؛ فأجابته هي -بالتفصيلِ- بالموت؛ كنحلةٍ دفعت حياتَها ثمنًا لتقرصَ جلدَ البشرية الذي تبلَد، وتوقظه من نومِه الذي طال، فوهبتنا العسلَ والعُمر والقلم والروحَ معًا، واحتفظتْ هي بالجسدِ لتنفقَه على الأرضِ، بعد ما أنفقت أغلى ما لديها لتجعلنا نرى الحياة -كالملائكة- من السماء.
إنَّ الكتابةَ هي الفنّ الذي يفرغَ روحَك ليملأ أرواح الآخرين، وهي الإنفاقُ في أبهى صوره وأصدق معانيه. لا يرى القارئُ إلا المولودَ، ولا يعرفُ حجمَ المخاضِ إلا الكاتبُ، ولا يرفصُ الجنينُ بقدميه إلا الفؤادَ الذي يحمله. يحكي القارئُ عن الكلماتِ التي أيقظته حتى صباح اليومِ التالي، ولا يعلمُ أنّ الكاتبَ لم تسمح له حروفه بالنومِ ربّما منذ سبعِ ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوما.
يقولونَ -بمنتهى البساطة-: هدّئ روحك واتركْ قلمك أو اطرحه أرضًا يخلُ لك وجه الأيام، واضمم يدَك إلى جناحِك تخرج بيضاء من غير سوءٍ آيةً أخرى، لكنْ لا أحد أبدًا يفهم كيف يكون العذابُ بالقيدِ إلا مَن حزَّ القيدُ رسغَه، ولا يعلمُ رائحةَ الحديد إلا من ألصقَ في باب الزنزانةِ كلَّ مساءٍ أنفَه، ولا يدركُ طعمَ المرارةِ إلا مَن جفّفَ المُرُّ حَلقَه. إن القلمَ كالبندقية، والكلمة كالرصاصة، والحرف كالشظية، والمشاعر كالزناد.. والكاتب وحدَه هو الرصاصةُ، وهو الجسدُ الذي تسكنُ فيه في اللحظةِ ذاتِها، ولا تسكنُ الرصاصةُ في جسدٍ إلا إذا قتَلَتْه.. والكاتبُ وحدَه السيف، وهو الدرعُ الذي يصدّ السيف، ووَحدَه الموجُ، والبحرُ، والغرقى.. ولا تصيبُ الكلمةُ أحدًا إلا بعد أن تخترقَ الكاتبَ كاملةً، فلا ينال الآخرين بعده إلا تطاير الشرر حتى ينطفئ، أو علوّ الصوت حتى ينخفض، أو تفجّر الدم الساخن – والدم الساخن لا يبرد-.
إنَّ حسبَنا في هذه الدنيا، وعزاءنا بعد ما نقضي، أن تحيا الكلماتُ بعدَنا، كما رأيناها حيَّةً تشفع لأصحابها وتستأذن لهم في الخلود. إنّ القلمَ وحدَه قادرٌ على أن يورّث الحبّ أو الحربَ في قلوب القارئين، والكلمة وحدها قادرةٌ على أن تجعل من الجدرانِ المتبقية بعد قصفِ المدن.. دروعًا لأطفال المدينة ليجلبوها من بين أنياب الكلاب. وإنّ الحرفَ وحدَه قادرٌ على أنْ يستحيلَ في أفواهِ الصغار سوْطًا، يجلدون به ظهور الجلادين الذين كووا ظهور الكبارِ من عشرات السنين.. عزاؤنا أن تُرفَع الكلماتُ بعدما نوارَى في التراب، وأن يعرفَ الناسُ ما تفعل الحربُ بالمحبّين وما يفعل الحُبّ بالمحاربين، وأن يستلهم الصبيةُ من وحيِ القصيدةِ وجلالِ الرواية شعاراتٍ لدحر محتلٍّ أو طعنِ مغتصب. إن العزاءَ لهؤلاء الذين قطفوا زهور حياتِهم فحوّلوها صبَّارًا يملؤون به دَوَياتِهم، أنْ يعيشوا بعد الموتِ عُمرًا بالحروف، أضعافَ الذي عاشوه قبل الموتِ بالأرقام.
اتركوا الحروفَ تنضج حتى تخرجَ غير مشوّهة، وارعوا الكلمات حتى تسطّر رواياتٍ ليست مزيّفة، واكتبوا حتّى تموتوا. وإنّ الموتَ لا يدخلُ على غرفةٍ، يُسمَع فيه صريرُ قلمٍ أو يُسرَجُ فيها مصباحُ كاتب. وإذا دخلَ عليه فكأنّما دخلَ على نبيّ، استأذنَه قبل أن يقبضه، فإن أذن له صعد بجسمِه، وتركَ الروحَ وصريرَ القلمِ ونورَ السراج مخلّدين، كأنّ موتًا لم يأتِ، وكأنَّ كاتبًا.. لم يمُت.
الله