لفترة لا بأس بها، كنت مهووسًا بفكرة السعي للكمال، على كل الأصعدة في حياتي.
وككل الهواجس، بدأ الأمر بمجرد فكرة صغيرة في رأسي، نمت وترعرعت مع الوقت؛ حتى كادت أن تبتلع عالمي كله بداخلها.. مع مرور الوقت، صار الأمر وسواسًا مُلحًا يُثقلني، كأنني أسير وفي رقبتي حبل من مسد، أجرّ به صخرة عذابي، في طريق صعود لا نهاية له.. مما جعلني مهما أنجزت، لا أشعر بحلاوة للنجاح؛ لا أراني إلا فاشلًا مُقصرًا، حتى وإن كان من حولي يمدحون تفوُّقي ونبوغي!
كنت أود أن أصبح الكاتب الأفضل، على كل المستويات، أن أفعل وأحقق كل شيء الآن وفورًا، دون تأجيل أو ترتيب للأولويات.. أن أصير الصديق المثالي المُفضَل للجميع، وشريك حياة خارج من إحدى الروايات الرومانسية، أتحمل دومًا دون أن أشتكي، أعطي بلا حدود، حتى لو كنتُ أرى نفسي في داخلي مظلومًا في هذا الوضع.
كنت أبحث عن الكمال، قبل أن أدرك مُبكرًا- ولله الحمد- أنني أجري لاهثًا؛ بحثًا عن الوهم.
(2)
تمتلئ معظم كتب السير الذاتية للمشاهير، والتنمية الذاتية، وبعض برامج التليفزيون، والعديد من الأفلام السينمائية والوثائقية، بالقصص والحكايات الشخصية لشخصيات ناجحة؛ بحيث يبدو للناظر أنهم اقتربوا من الكمال، وكادوا أن يحققوه، خاصةً على الصعيد المهنيَّ؛ مما يخلق لدى الإنسان العادي اعتقادًا أن النجاح مرتبط فقط بهذه الصورة المثالية التي صدَّروها له، مع أن نفس الإنسان الناجح مهنيًا، الذي صنع التاريخ، ربما كان زوجًا فاشلًا، أو مديرًا قاسيًا لا يرحم، أو صديقًا سيئًا مستغلًا لا تحب أبدًا أن تصادفه في حياتك! لكن الميديا عادةً ما تختار أن تُصدِر لنا الوجه المثالي دون غيره من الأوجه والزوايا لنفس الشخصية.
لو كُنّا ننظر إلى مثل هذه المواد الإعلامية على أنها مجرد مُحفّز جيد لنا؛ كي نصبح أفضل، لما كانت هناك مشكلة.. المصيبة تكمن في وقوع معظمنا في فخ الاعتقاد بأن هذه النماذج تمتلك الحق الحصري لمفهوم “النجاح” بمختلف تجلياته؛ فننظر لمسيرتنا في العمل، وعلاقاتنا الإنسانية والأسرية والعاطفية، وعيوننا متعلقة بهذه النماذج “الكاملة” لدرجة تجعلها مستحيلة بالنسبة لنا؛ لأن البشر طبيعتهم ببساطة هي النقصان.. فكيف لنا أن نسعى لما لم نُخلَق لأجله؟
(3)
في الفيلم الأمريكي البديع Good Will Hunting، تدور الحكاية الرئيسية بين طبيب نفسي، وشاب متقد الذكاء منحرف السلوك؛ بسبب ظروف نشأته التي شوَّهت روحه، وجعلتْ منه شخصًا عدوانيًا متنمرًا إلى أقصى الحدود، وفي القلب من كل هذه العدوانية والعنف الظاهري، يكمن طفل مذعور دومَا، لا يرى في نفسه أنه يستحق الحب؛ فيخاف أن يمنحه لغيره، ولا يصدقه عندما يُمنَح له؛ فيقابله بالمزيد من العدائية.
في إحدى جلساتهم، حكى له عن زوجته التي ماتت بسبب السرطان، وتركته بعدها يصارع دوامات الحزن وحيدًا.. كان حديثه يدور حول فكرة أن متانة حبهم لم تكن تجعل الأمور مثالية أبدًا، على العكس، كانت علاقتهم طبيعية، بها نواقص، كأي شيء إنساني، كانت لهم لحظاتهم الطيبة، والتعيسة، ذكريات شديدة الرومانسية، وذكريات حزينة، الشيء الوحيد الثابت أنه كان يجدها جميلة، في كل حالاتها، حتى في اللحظات التي تمكَّن المرض منها خلالها، كان يجد فيها جمالًا لا تراه في نفسها، وهذا هو الحب.. ربما لا تتمكن من أن تحب نقائص شريكك، لكنك تألف معظمها، وتتحمل في سبيل حبك له ما لم تستطع بعد أن تألفه.. وهنا تكمن فلسفة الحب الأشمل، التي تتمثل في التضحية بوهم البحث عن الشريك الكامل، في سبيل الأُنس والأمان الذي نشعر به في صحبة مَن نحب، دون أن يركز كلانا على نقائص الآخر.
(4)
لم يخلقنا الله كاملين؛ فكيف نسعى لما لم نُخلَق له، في نفسنا أو في غيرنا؟!
يُقال أن أسوأ ما يزرعه إدمان مشاهدة الأفلام الإباحية في الإنسان هو زرع فكرة وهمية عن “الجنس المثالي”، الذي يكتشف الإنسان وهميته عندما يدخل تجربته الجنسية الأولى، دون أن يدرك أن صناعة ترويج الوهم الضخمة هذه لا تستهدف إلا المزيد من المشاهدات، والوسيلة هي إيهام المشاهدين أنهم يمكن أن يكونوا بمثل هذه المثالية الوهيمة المُفرطة التي يشاهدونها.
وعلى نفس المنوال، وإن اختلفت تجلياته، يقضي الكثيرون حياتهم ضائعين في وهم البحث عن الكمال؛ يخسرون أصدقاء جيدين، وربما يفوّت أحدهم فرصة مناسبة للحب، ومقاسمة الحياة مع إنسان جميل يحبه؛ بحثًا عن الإنسان الكامل والعلاقة الكاملة الخالية من النقائص؛ بحثًا عن وهم يروّجوه لنا يوميًا، من خلال نماذج مقولبة يتم تلميعها، وإخفاء نقائصها، قبل بيعها للمستهلك في قصص وحكايات لامعة نموذجية، وهمية المضمون.
ولعلَّ الاكتمال الحقيقي يكمن في أن يجد الإنسان الجمال في نفسه، وفي مَن يحبهم، دون أن يكدر صفوه وهم الكمال.
اضف تعليقا