لم أر جمالاً بعد المغرب كجمال لبنان، بكل نواقضها العجيبة إلا أنها ممتعة للمشاهدة والسير ومن يعرفني يعرف أنّ وزني لم يمنعني يوماً عن المشيّ، وما بالك إن كان المشي يؤدي أحياناً كثيرة للتوقف في أماكن قد لا أستطيع رؤيتها إن استعنت بوسيلة مواصلات معينة.!

أحب لبنان ربما لصدقها وصراحتها وتقبلها لكل الأطياف والجماعات إنه التنوع الذي يجعلكَ تؤمن بالله يقيناً دون الدخول في  الصراع بين العصبيات في الدين والمذهب، فتدخل مسجد الشيعة ليشترط عليك قانوناً معيناً وكذا مساجد السنة، في محاولة جادة للهداية والنصح والإرشاد، إذ كلما ازدادت حدّة الصراع بين العصبيات في الدين وازددت تمسكاً برايك، هبطت مكانة الله فيه وارتفعت مكانة هذا أو ذاك ممن يتعلق بهم أهل المذهب، وليس في هذا العزوف المتدين عن ربّ الكائنات شيءٌ يصعب فهمه. فالله، وإن اختلفت الأديان في صفاته، محيطٌ بمخلوقاته كلها ويتعذّر احتكاره من ملّة أو مذهب ، فتجد المسيحيّ والسني والشيعي .. كلهم يتقاسمون نفس المدينة ونفس المكان.

الشاهد في الأمر أن صديقتي بلكنتها المضحكة  وصوتها الذي يصل إلي الشارع الآخر، كانت كلما أحبت سؤال أحدهم تصرخ في وجهه” لو سمحت” وتبدأ بتفصيل ما تريده من الآخر بطريقة كنت ولازلت أبتسم عند تذكرها، هذه المرة حاولت مرة أن تصطاد في الماء العكر وبدأت الحديث عن الدين والسياسة وعن تحفظه اوانتقادها لأحد الجماعات في لبنان والديانات ولولا تغيير الحديث لما كنت أكتب مقالاً كهذا الآن .!

ما نعرفهُ جميعاً أنّ من يدعي التدّين يحاول دائماً الجدال ويرى الإخر نداً يستحق كل الكره والشتائم لكنها ليست  المشكلة، الطامة الكبرى عندما يُنزلون الله نفسه من عليائه وكأنهم يعلنون أن البغضاء أقوى سلطاناً عليهم من الله نفسه.

وليس شرطاً أن تكون كل أحاديثنا مقصورة على الوعظ – الموجة الحالية – وهذا ما يجهله معظم من يتفلسف ويفرض رأيه، بمعنى التذكير الأخلاقي المتزهّد، فالدينُ ليس ذلك فقط، مع الانتباه إلى أن شمول الشريعة وتأطيرها لكل أنشطة الحياة سيعني أن كلامنا مهما كان لا يخرج عن الأحكام الخمسة: (واجب، مستحب، مباح، مكروه، محرّم) ، أي أنها لن تخرج عن إطار الدين، لكن يبقى الفقه الصحيح المتعقّل، فحينما يتفاعلُ العقل بالنقل تنقدح الحضارة، وللإمام الغزالي مقولة معبّرة وفاتنة يقول فيها: “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحبَ فيه الرأيُ والشرع. وعلمُ أصول الفقه من هذا القبيل ؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواءَ السبيل: فلا هو تصرّفٌ بمحض العقول بحيث لا يتلقّاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهدُ له العقل بالتأييد والتسديد”..ف أخذ العقل والنقل -كلاهيما- بالاعتبار، لأنهما سيقودان –بالنهاية- إلى الحقيقة التي لا تتعدد، فالدينُ لا يضّادُ العقل، فالتقليدُ الأعمى -إذن- ليس من الإسلام في شيءٍ.!

ومن يرى بيروت وهي تنتظر توصيل الكهرباء بالساعات متوقفة عن الحركة التامة يومياً مع ظهورُ براميل مطلية بالألوان الحزبية على اختلافها. وهذه براميل تبدأ مهمّتها بتضييق الشارع ومنع وقوف السيارات على مقربةٍ من مركزٍ ذي صفة حزبية ما. ولكن يسعها أيضاً، عند اللزوم، أن تقطع الشارع من أصله إذ تتحوّل، برشاقة غير معهودة في البراميل، إلى حاجز أو متراس… وهذا بدوره لا يأنف أن يؤدّي قسطَه في قَطْع دابر المقيمين في الجوار، يحمد الله على بعض النعم في المغرب، فتوفير أبسط الحقوق في المغرب قد يراه اللبناني شي كبيراً، وأنا من كان يستغرب من زيارة اللبنانيين للمغرب وإعجابهم الشديد بالبلد والعباد، إذ في ذلك سبب مقنع عرفت عند زيارتي.!

ربما هذا ما سيدفعني للقول: متى افادنا التجني على المجتمع ورؤيته من زاوية سلبية ، تلك النبرة التي لا تكفُّ عن “تحقير” وَ “تسفيه” المجتمع بطريقة سليطة أحياناً، والغير موضوعية أيضاً. !فمجتمعنا –كباقي مجتمعات الأرض- يصغي لمن يقنعه أكثر، إذ الناس تميل إلى من تراه أكثر صدقاً وقرباً من همومها ومشكلاتها، منطلقاً من مسلّماتها وأصولها، فإن عدمته اخترعته وأنجبته، في حين أنها ترفض المفروض عليها من “فوق”، والمارق على تلك الأصول والمسلّمات. ثم لا تنتظر ممن تتطاول على مقدساته أن يأتيك بالورود، يقول غرامشي بما معناه أن الانسان، بما هم مثقفون، لا يشكلّون طبقةً مستقلة، بل إن لكل مجموعة اجتماعية جماعةً من المثقفين خاصة بها، أو هي تعملُ على خلقها، فالمجتمعُ ينتجُ مثقفيه، إذا أصرّت السلطةُ على تصدير مثقفيها..!
بعيداً عن هذا كله، هناك جدال طويل ومقلق بين صدق مارسيل وانحيازه وموجة “الفن” اليساري وبين انحياز فيروز دائماً للحق وجرأتها وكيف يناصر اللبنانيّ فيروز دائماً وكأنه لا صوت يعلّو أبداً في لبنان إلا صوت بنت البلد”ولو”.!

وللحديث بقية.!

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولات تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة