بقلم/ مسعد أنور
يوم السبت القادم هو يوم فاصل في السياسة العالمية، ليس فقط لأنه يختبر غطرسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتهديداته الإجرامية المجنونة، بل لأنه سيحدد أيضًا مستقبل حكومة بنيامين نتنياهو التي تعلم جيدًا أن استكمال الاتفاق مع المقاومة الفلسطينية قد يكون بداية نهايتها.
المقاومة قررت التحدي
منذ صعوده إلى السلطة، لم يتوقف ترامب عن توجيه التهديدات إلى كل من يعارضه، سواء كانوا قادة دول كبرى مثل الصين وروسيا، أو حتى حلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا وكندا. لكن في النهاية، لم يجرؤ أحد على تحديه علنًا كما تفعل المقاومة الفلسطينية اليوم.
قطاع غزة، الذي دُمر بالكامل على مدار 15 شهرًا من الحرب، يواجه تهديدًا جديدًا من أقوى دولة في العالم. ترامب يهدد بإطلاق “الجحيم” على غزة إن لم تُفرج المقاومة عن الأسرى الإسرائيليين، متجاهلًا أن إسرائيل هي التي لم تلتزم بالاتفاقات التي رعتها واشنطن بنفسها. وبدلا من أن يفرض الرئيس الأمريكي عقوبات على نتنياهو لإخلاله باتفاقه بدأ في تهديد غزة .
ترامب لم يستوعب بعد أن هناك من يمكنه أن يقول له “لا”. طوال حياته السياسية، اعتاد أن تهتز العروش بمجرد أن يلوح بوعيده، وأن تنحني الدول الكبرى قبل أن يكمل تهديده. لكنه الآن يواجه شيئًا لم يتوقعه: مقاومة لا تخشى وعيده، ولا تنكسر أمام جبروته. غزة، التي دمرتها حرب إبادة لا مثيل لها، تقف اليوم وحدها في وجه رئيس أقوى دولة في العالم، وتقول له بوضوح: لن نخضع، لن نُهجر، ولن نسلم رقابنا لحلفائك السفاحين.
الإجرام الإسرائيلي: تلاعب بالمساعدات وحصار قاتل
حين وافقت المقاومة على المرحلة الأولى من الصفقة، كان ذلك بناءً على تعهدات واضحة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، لكن إسرائيل – كعادتها – لم تفِ بالتزاماتها. الأرقام وحدها تكشف حجم الجريمة:
من أصل 200,000 خيمة تم الاتفاق على إدخالها، لم يصل إلا ربع هذه الكمية، من أصل 60,000 كرفان، لم يدخل أي منها، بالإضافة إلى نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، أدى إلى وفاة المئات بسبب غياب العلاج، وشح في الغذاء، ما تسبب في وفاة الأطفال جوعًا أمام أعين العالم.
ببساطة، كل ما كان مطلوبًا من إسرائيل هو السماح بدخول مساعدات إنسانية للمدنيين، فكيف يكون ذلك أمرًا معقدًا؟ ولماذا يطلب الاحتلال أن يُعامل أسراه معاملة إنسانية في وقت لا يجد فيه أطفال غزة ما يسد رمقهم؟ كيف تطالب تل أبيب بأن يبقى جنودها بصحة جيدة بينما يموت الغزيون جوعًا؟
نتنياهو: الاتفاق يعني الانهيار
نتنياهو يدرك أن اللحظة التي يبدأ فيها بتنفيذ الاتفاق ستكون بداية نهايته. لماذا؟ لأن هذا الاتفاق يُهدد توازن الحكومة الداخلي الهش، خاصة مع وجود شخصيات متطرفة مثل بتسلئيل سموتريتش، الذين لن يترددوا في إسقاط الحكومة فورًا إذا استمرت في تنفيذ التفاهمات مع حماس.
نتنياهو، الذي صنع مجده السياسي على أوهام القوة وسحق الفلسطينيين، يجد نفسه الآن في مأزق وجودي: إذا أتم الصفقة، فسينهار تحالفه، ن المشكلة ليست فقط في الداخل الإسرائيلي أو في ضغوط الحلفاء الدوليين، بل في السؤال الأهم: هل تستطيع إسرائيل إعادة تموضع قواتها في غزة بعد الانسحاب؟
من يضمن أن القوات الإسرائيلية ستتمكن من العودة بسهولة؟ كم سيكلفها ذلك عسكريًا؟ هل تستطيع إسرائيل حتى التفكير في إعادة اجتياح مناطق انسحبت منها، بعد كل الخسائر التي تكبدتها؟
وفي ذات الوقت الاحتلال يدرك أنه إذا أفرج عن الأسرى وأدخل المساعدات، فهذا ليس مجرد تراجع تكتيكي، بل تحول استراتيجي يفرض عليه الاعتراف بأنه فشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية. كيف سيبرر لشعبه أنه انسحب من غزة دون القضاء على حماس؟ كيف سيواجه آلاف العائلات التي دفعت ثمن مغامرته الفاشلة؟
ولأن نتنياهو يعلم أن تنفيذ الاتفاق يكشف زيف وعوده لشعبه، فهو يبحث عن أي ذريعة، أي ورقة ضغط، أي مناورة تتيح له التهرب من التزاماته. لذلك، لجأ إلى ترامب، يحاول استغلال اندفاعه ليضع الضغط على حماس بدلاً من أن يواجه الحقيقة: المأزق الحقيقي في تل أبيب، وليس في غزة.
أما إذا قرر التهرب، فهو يفتح الباب أمام أزمة جديدة داخل إسرائيل نفسها. لأن استمرار الحرب بلا رؤية، بلا خطة خروج، بلا قدرة على حسم المعركة، يعني أن الأوضاع قد تنفجر من زاوية أخرى، ربما بانفلات أمني غير مسبوق داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية، أو تمرد عسكري داخل الجيش، أو حتى انهيار سياسي يعصف بحكومته بالكامل.
الشعوب الحرة ودورها في دعم النضال الفلسطيني
لم يعد الصراع في غزة مجرد قضية فلسطينية، بل أصبح معركة أخلاقية للعالم كله. أمام آلة القتل الإسرائيلية المدعومة بأحدث التقنيات العسكرية الأمريكية، وأمام طغيان ترامب الذي يريد فرض الهيمنة بالقوة، تقف غزة وحدها في معركة غير متكافئة، لكنها لم ولن تنكسر.
وهنا، يأتي دور الشعوب الحرة في العالم. عندما تعجز الحكومات عن اتخاذ موقف حاسم، يصبح على الأفراد والجماعات المدنية والأحرار في كل مكان مسؤولية التحرك. خلال الأشهر الماضية، رأينا كيف نظمت مظاهرات ضخمة في عواصم العالم من واشنطن إلى لندن وباريس، وكيف تحولت الجامعات إلى ساحات مقاومة فكرية ضد الاحتلال، وكيف بدأ الرأي العام العالمي في التحول بشكل غير مسبوق ضد إسرائيل.
المقاطعة الاقتصادية، الضغط الإعلامي، الحملات على مواقع التواصل، فضح جرائم الاحتلال، كل هذه أدوات يجب أن تتضاعف وتتصاعد. الشعوب ليست عاجزة، والتاريخ أثبت أن الضغط الشعبي قادر على قلب الموازين.
لم تكن العزلة الدولية التي تعيشها إسرائيل اليوم نتيجة قرارات سياسية فقط، بل هي ثمرة حركة الشعوب الحرة التي رفضت التواطؤ والصمت أمام الجرائم الإسرائيلية. لم يعد بإمكان الاحتلال خداع العالم بمظلوميته المزيفة، ولم تعد صورة “الدولة الصغيرة المحاصرة” تنطلي على أحد. الشعوب في كل مكان، من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، من إفريقيا إلى آسيا، خرجت إلى الشوارع، حاصرت السفارات الإسرائيلية، قاطعت الشركات الداعمة للاحتلال، وأحرجت حكوماتها المتواطئة.
هذه الموجة العالمية غير المسبوقة من الكراهية لإسرائيل لم تأتِ من فراغ. العالم رأى بأم عينه كيف يُقتل الأطفال تحت الأنقاض، كيف يُستهدف المرضى في المستشفيات، كيف يُحرم الملايين من الماء والغذاء والدواء. لم يعد هناك مجال للحياد، أو لإخفاء الجرائم خلف ستار “محاربة الإرهاب”. الحقيقة باتت واضحة: إسرائيل ليست سوى نظام إجرامي يتغذى على دماء الأبرياء، نظام لا يقل سادية ووحشية عن أسوأ الأنظمة الديكتاتورية في التاريخ، بل ربما تجاوزها.
اليوم، كل حكومة تتواطأ مع الاحتلال تجد نفسها في مواجهة غضب شعوبها. المظاهرات تعم العواصم الكبرى، الدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية والثقافية تتزايد، وصورة إسرائيل في الأوساط الأكاديمية والسياسية والحقوقية تنهار كليًا. لم يعد بإمكان الاحتلال أن يفرض روايته، ولم تعد دعاية “الضحية المغلوبة على أمرها” تقنع أحدًا.
الشعوب الحرة اليوم تصنع الفرق، ترسم خارطة جديدة للصراع، وتؤكد أن الاحتلال مهما امتلك من السلاح والإعلام والدعم السياسي، لن يستطيع الصمود أمام إرادة الأحرار.
الدول العربية في مأزق: هل يرضخون لنتنياهو وترامب؟
بينما تتجه الأنظار إلى غزة، تعيش بعض الأنظمة العربية حالة من الترقب والحرج، خاصة مصر والأردن والسعودية، التي تحداها ترامب ونتنياهو مرارًا بحديثهما عن تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها.
لم يكن التحدي الذي أطلقه ترامب ونتنياهو للدول العربية مجرد استعراض سياسي، بل كان بمثابة اختبار عملي لقدرة هذه الأنظمة على اتخاذ موقف حقيقي أمام مشروع التهجير القسري للفلسطينيين. لكن حتى الآن، لم يُظهر أي من هذه الدول القدرة على الوقوف في وجه هذه التهديدات، بل بدا المشهد وكأن الجميع يحاول المناورة لتجنب الصدام مع واشنطن، مهما كان الثمن.
ملك الأردن، الذي يدرك تمامًا أن تهجير الفلسطينيين إلى بلاده يعني زعزعة استقرار المملكة بشكل غير مسبوق، لم يستطع رفض دعوة البيت الأبيض، ولم يجرؤ حتى على تحدي تصريحات ترامب المتغطرسة، التي خاطبه خلالها وكأنه يصدر له أوامر مباشرة بقبول الخطة كأمر واقع. الزيارة نفسها كانت رسالة واضحة: الرفض ليس خيارًا متاحًا أمام الأردن، حتى لو كان بقاء النظام نفسه على المحك.
في القاهرة، النظام المصري يدرك تمامًا أن قبول فكرة التهجير إلى سيناء سيكون كارثة أمنية، وأن هذا السيناريو ليس مجرد تغيير ديموغرافي، بل تهديد مباشر لأمنه القومي. ورغم ذلك، لا يبدو أن السيسي مستعد لدفع ثمن مواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر، ولا حتى المخاطرة بخسارة دعمها. مصر تجد نفسها في معادلة مستحيلة: رفض الفكرة يعني الصدام مع ترامب، وقبولها يعني تفجير الداخل المصري بموجات غضب لن يستطيع النظام احتواءها.
أما السعودية، فهي أضعف من أن تتخذ موقفًا حاسمًا. محمد بن سلمان يدرك أن فكرة تهجير الفلسطينيين إلى السعودية هي كارثة سياسية قد تفقده أي شرعية داخلية أو إقليمية. لكنه أيضًا لا يريد أن يزعج ترامب أو يفقد الدعم الأمريكي، لذلك يحاول البحث عن أي مخرج يحفظ ماء الوجه دون أن يُغضب واشنطن أو يعطل مسار التطبيع مع إسرائيل.
المقاومة.. الخيار الوحيد أمام الأنظمة العربية
إذا كانت هذه الدول غير قادرة على مواجهة ترامب ونتنياهو، فإن دعم المقاومة الفلسطينية هو السبيل الوحيد لحماية أمنها القومي. فغزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل حائط الصد الأخير الذي يمنع مشروع التهجير من أن يصبح واقعًا.
إذا كانت هذه الأنظمة غير مستعدة لمواجهة ترامب دبلوماسيًا، فعليها على الأقل أن تقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل فورًا. إسرائيل لا تتحمل العزلة، وقطع العلاقات معها سيكون الضربة القاضية لحكومة نتنياهو.
التطبيع في ظل هذه الجرائم ليس مجرد خيانة، بل مشاركة مباشرة في الجريمة. ووقف العلاقات ليس مجرد رد فعل، بل استراتيجية حاسمة قد تغير مسار الأحداث بالكامل.
السبت: اختبار للحكومات والسياسات والشعوب
يوم السبت ليس مجرد يوم آخر في هذه الحرب. إنه اختبار للحكومات العربية، هل ستقف في وجه الضغوط الأمريكية أم ستخضع؟ هل ستدافع عن حقوق الفلسطينيين أم ستقبل بسياسات التهجير؟
وهو اختبار للسياسة العالمية: هل ستسمح الدول الكبرى لترامب بفرض إرادته بالقوة؟ أم ستتحرك لوقف هذا الجنون؟
وهو أيضًا اختبار للشعوب الحرة: هل ستواصل دعمها لغزة؟ هل ستضغط على حكوماتها لوقف المجازر؟ أم ستقف متفرجة؟
في النهاية، القضية ليست فقط عن غزة، بل عن مستقبل العالم كله. إذا سُمح لترامب ونتنياهو بتنفيذ مخططاتهم دون مقاومة، فسيكون أي شعب أو دولة في المستقبل معرضًا لنفس المصير. لكن إذا انتصرت غزة في هذا التحدي، فستكون قد وجهت صفعة مدوية لأكبر قوتين في العالم، وأكدت أن الشعوب الحرة قادرة على فرض إرادتها، مهما كانت الظروف.
اضف تعليقا