العدسة: محمد العربي

“خصخصة القطاع العام أمر جيد جدا” .. بهذه الكلمات أعطي رئيس الإنقلاب بمصر عبد الفتاح السيسي إشارة البدء في خصخصة ما تبقي من شركات قطاع الأعمال العام المملوكة للدولة، بعد توقف استمر ثمانية سنوات بسبب ثورة 25 يناير 2011، ورغم أن الحكومة تحايلت في تحركها نحو الخصخصة من خلال طرح شركات القطاع العام في البورصة كخطوة لبيعها بدون ضجيج إلا أن إعلان السيسي خلال افتتاح مصنع أسمنت بني سويف المملوك للجيش قبل أيام، فضح ما كان يحدث في الخفاء وجعله امرا واقعا وبتكليفات رئاسية.

وكانت الحكومة المصرية السابقة برئاسة شريف إسماعيل قد أصدر قرارا في مارس 2018 بطرح شركات قطاع الأعمال والقطاع العام المملوكة للدولة في البورصة، وهو ما وصفه الاقتصاديون وقتها بأنه نمطا جديدا من أنماط الخصخصة، يستهدف مواجهة عجز الموازنة وجذب الاستثمار، وذهب آخرون إلي أن هذه الخطوة تمثل خضوعا صريحا لإملاءات صندوق النقد الدولي الذي يهدف للقضاء علي القطاع العام والتوظيف الحكومي.

ضجيج بدون طحين

وطبقا لمختصين بالاقتصاد فإن الحكومة طرحت بالبورصة شركات القطاع العام التي تصل قيمتها السوقية 430 مليار جنيه مصري (25 مليار دولار)، وطبقا لبيان وزارة المالية فإن طرح أسهم هذه الشركات سيحقق إيرادات تصل إلى ثمانين مليار جنيه مصري  (4.5 مليار دولار)، سوف يتم توجيها لسد عجز الموازنة. كما قالت الحكومة بأن الطرح الحكومي سوف يساهم في توسيع قاعدة الملكية، وتوفير تمويل إضافي للشركات الحكومية، ما يساهم في جذب مزيد من التدفقات الاستثمارية الاجنبية.

ورغم ما أعلنته الحكومة فإن التجربة علي أرض الواقع تشير لفشل خطة طرح الشركات في البورصة، حيث لم تحقق العائد الذي كانت تهدف اليه وهو 80 مليار جنيه، وإنما كان الهدف هو تمهيد الأرض لإعادة الخصخصة مرة أخري للاقتصاد المصري، خاصة وأن جملة الأصول المتداولة في البورصة المصرية لا تتجاوز 32 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة متدنية للغاية، بالإضافة إلي أن العائد الذي أعلنته الحكومة لا يكفي إلا لسداد نسبة ضئيلة من عجز الموازنة لن تزيد عن 18% من إجمالي العجز الذي وصل إلى 432 مليار جنيه، وقت طرح الشركات بالبورصة..

وطبقا لدراسة أعدها يحيى حسين عبد الهادي المتحدث باسم الحركة المدنية الديموقراطية، وصاحب الحكم الشهير بوقف بيع شركة عمر أفندي لمستثمريين سعوديين، فإن الخصخصة تتطلب شرطين أساسيين؛ الشرط الأول هو أن تتم بموافقة صاحب هذه الأصول، وهو الشعب، والشرط الثاني بأن تتم الخصخصة في مناخ كامل من الشفافية، بما يضمن ألا يتسلل لها فساد، وهو ما لم يحدث على الإطلاق في فترة حكم مبارك، التي شهدت ثاني أسوأ برنامج خصخصة علي مستوى العالم، بعد تجربة الخصخصة التي شهدتها روسيا في عهد الرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسين.

تجارب سلبية

وتمثل التجربة المصرية في الخصخصة علامة سوداء في تاريخ الاقصاد المصري، حيث بدأ قطار الخصخصة عام 1991 في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، ووصل عدد شركات القطاع العام التي بيع بعضها أو بالكامل خلال الفترة من عام 1991 وحتى عام 2009 قرابة 407 شركات، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للمحاسبات، بحصيلة بيع بلغت 50 مليار جنيه (2.8 مليار دولار)، لم يدخل الخزانة العامة للدولة منها سوى 18 مليار جنيه فقط، وجهت لسداد عجز الموازنة، فيما أكدت بعض التقديرات الرسمية بأن قيمة الأصول والشركات التي تم بيعها كانت تصل لنحو 500 مليار جنيه.

علي جانب آخر مثلت الخصخصة أبشع أشكال الفساد لصالح رجال الأعمال والمستثمرين، الذين سيطروا علي شركات رابحة بأسعار زهيدة، كما قامت الحكومة بتدمير شركات رابحة من أجل بيعها بالأمر المباشر لرجال أعمال، مقابل عمولات لكبار المسئولين، وهو ما أدي لزيادة المستثمرين الأجانب بمصر، والذين وجدوا في الشركات التي يتم طرحها للبيع فرصة لا تقدر، خاصة وأن ما يتم دفعه فيها يقل بكثير عن قيمتها السوقية وقيمة أصولها وممتكاتها، وقد أثر هذا التوسع في الخصخصة لزيادة أعداد البطالة نتيجة تخلي أصحاب الشركات الجدد عن 70% من معظم العمالة بالشركات المبيعة، وهو ما مثل بعد ذلك سببا هاما في شرارة ثورة 25 يناير 2011.

ويعد الدكتور عاطف عبيد رئيس الحكومة الأسبق المحطة الابرز في الخصخصة وفي عهده زاد بيع الشركات لصالح رجال أعمال مقربين من دوائر الحكم، وهو ما أدي لزيادة معدلات الفساد والرشاوي في عمليات البيع بشكل لم تعهده مصر من قبل.

خصخصة السيسي

ووفقا للمتابعين لسياسية السيسي الاقتصادية فإن “الجنرال” كان واضحا منذ البداية بأنه سيقوم ببيع كل شيء، حتي لو وصل لحد بيع المواطنين لأنفسهم ولكن بشرط أن يكون ذلك علي يديه، وطبقا لذلك فقد اتخذ السيسي عدة خطوات لضمان سيطرته علي عمليات البيع، وهو ما تمثل في إقرار تشريع يُمَكِن السيسي من تشكيل صندوق سيادي يكون أهم اختصاصاته بيع وإدارة الأصول المملوكة للدولة، وهو الصندوق الذي من خلاله يستطيع السيسي التحكم في أموال 136 شركة مازالت تابعة للقطاع العام، وهي الشركات التي سيتم بيعها لعدة أسباب، الأول فيها هو الاستفادة من العائد المالي الذي ينتج عن بيعها في إنعاش موازنة الدولة التي تعاني من عجز متواصل.

أما السبب الثاني فهو إفساح المجال لشركات القوات المسلحة التي باتت تحتل الرقم واحد في مختلف الصناعات والقطاعات، ومجالات الاقتصاد المختلفة وخاصة كل ما يحيط بالاستثمار العقاري، أما الهدف الثالث فهو التخلص من العمالة الموجود بهذه الشركات في إطار خطة نظام السيسي بالتخلص من 6 ملايين موظف بالدولة طبقا لما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي.

ويري المتابعون أن إعلان السيسي الصريح بأنه لا شيء بدون مقابل في مصر بعد الآن، يشير إلي أن هدف السيسي في المرحلة المقبلة هو تقليص ما تقدمه الحكومة من خدمات للمواطنين، في مقابل زيادة ما يقدمه المواطن للحكومة من أموال متمثلة في الضرائب التي دخلت في كل مناحي الحياة المصرية.

ومن أبرز الشركات المتوقع خصخصتها خلال الفترة المقبلة: شركات الحديد والصلب وممفيس للأدوية، والعربية للشحن والتفريغ، والقومية للأسمنت، وراكتا للورق، والشركة العربية لتصنيع الزجاج الدوائي بالسويس، وأبو قير للأسمدة بالإسكندرية، وبيع حصص تقترب من 50% من 6 شركات نفطية تابعة لوزارة البترول هي (إنبي – موبكو – ميدور – أموك – إيثيدكو – سيدبك) و3 بنوك حكومية كبرى هي بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربي الأفريقي، بالإضافة لأربع شركات حكومية متخصصة في إنتاج الكهرباء.

وقد منح القرار الوزاري رقم 2336 لسنة 2017 الحق للحكومة في بيع شركات القطاع العام المملوكة للدولة سواء كان البيع جزئيًا أو كليًا، فإن عائد بيع هذه الشركات سوف يؤؤل لثلاثة أمور وهي زيادة رأس مال الشركة، وسداد جزء من مديونياتها، وأخيرا إيداع جزء من الحصيلة في خزينة الدولة، دون تحديد نسبة كل منها، أو أوجه إنفاق هذه الحصيلة، وهو ما يمثل خطرا في حد ذاته ويفتح الباب علي مصراعيه للتلاعب، عملا بالمثل الشائع “حاميها حراميها”

وطبقا لخبراء الإقتصاد فإنه يجب علي الدولة تطوير الشركات التي مازالت تابعة لها، وخاصة التي تنتج سلعا استراتيجية مثل القومية للأسمنت وشركات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة والقابضة للصناعات الغذائية والحديد والصلب وشركات الكهرباء