في حلقة جديدة من مسلسل إهدار الوقت الذي تنتهجه إثيوبيا ضد مصر، في طريقها للمراوغة مقابل ملء وتشغيل سدّ النهضة، مع إدخال مصر في متاهة من المفاوضات والحلول الدبلوماسية والقانونية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

حيث أبلغت وزارة الري السودانية نظيرتها المصرية بما يفيد باتساع الخلاف بين الرؤية المصرية-السودانية المشتركة لطريقة مباشرة المفاوضات في مراحلها المقبلة، وبين الرؤية الإثيوبية.

وذلك وسط إصرار وزير المياه والطاقة الإثيوبي “سيليشي بيكيلي”، الذي يدير الملف في العاصمة أديس أبابا، على عدم الانطلاق من القواعد والصياغات التي كان تم الاتفاق عليها في واشنطن.

الأمر الذي جاء بعد أول تواصل غير مباشر بين الطرفين عبر السودان، لتنفيذ ما اتفقت عليه الدول الثلاث من استئناف المفاوضات الفنية هذا الأسبوع.

والأحد الماضي، عقد وزير الري السوداني، ياسر عباس، اجتماعين منفصلين مع نظيريه المصري محمد عبد العاطي، والإثيوبي سيليشي بيكيلي.

ووفقًا لمصادر فنية مصرية، فإنّ الوزير عبد العاطي الموجود في منزله لخضوعه لعزل ذاتي لمخالطته حالة إصابة بفيروس كورونا، ركز في النقاط التي تحدث عنها على المسائل العالقة التي لم يتم الاتفاق عليها بشكل كامل في الصياغة التي أعدها وفد البنك الدولي ووزارة الخزانة الأميركية لما تمّ التوافق عليه بين الدول الثلاث في المفاوضات التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر. كما تلاقت رغبة عبد العاطي مع رغبة نظيره السوداني، لناحية البناء على ما تم الاتفاق عليه وعدم الرجوع لمناقشة أمور سبق حسمها.

وأشارت المصادر، أنه على النقيض من ذلك، ركز الوزير الإثيوبي على نقطة واحدة هي ما إذا كان اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في الخرطوم في مارس/ آذار 2015 يمنع الملء المنفرد للسدّ من جانب إثيوبيا من عدمه، ومدى الصلاحية القانونية والفنية لبدء عملية الملء الأول بالتوازي مع استمرار التفاوض على قواعد الملء والتشغيل في الفترات التالية، حسب صحيفة “العربي الجديد”.

وبحسب المصادر المصرية، فإنّ بيكيلي زعم بأنّ إثيوبيا تُنفذ “بالحرف الواحد” نص المادة الخامسة من اتفاق المبادئ، والخاصة بمبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد.

وأضافت أن “بيكيلي” ادعى على غير الحقيقة، أنّ بلاده تنفذ توصيات لجنة الخبراء الدولية التي تمت الاستعانة بها قبل أربعة أعوام وفشلت في التوصل إلى حلول نهائية، وأنّ إثيوبيا تحترم المخرجات النهائية للتقرير الختامي للجنة الثلاثية للخبراء حول الدراسات الموصي بها خلال المراحل المختلفة للمشروع.

كما زعم بيكيلي أنّ الهدف من الاتفاق ليس استئذان إثيوبيا من مصر والسودان قبل الملء الأول، مشيراً إلى أنّ اتفاق المبادئ ينص على أن تلتزم إثيوبيا بـ”الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”. وادعى أنّ بلاده تحقق هذا بالفعل، وأنها أطلعت دولتي المصب على كل الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن، وأن حالة الجفاف تحديداً تُقدر احتماليتها بأقل من أربعة في المائة خلال أول عامين، وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً. وأكّد أنّ إثيوبيا تلتزم بعدم الإضرار بمصر والسودان في تلك الحالة.

وقال بيكيلي إنه يمكن الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، بالتوازي مع الملء الأول للسدّ، خصوصاً أن اتفاق المبادئ يجيز لإثيوبيا إعادة ضبطها من وقت لآخر، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السدّ.

وعلى الرغم من أنّ المادة الخامسة من اتفاق المبادئ التي تفسرها إثيوبيا بهذه الصورة النصية والضيقة، قد نصت أيضاً على استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سدّ النهضة مع خزانات دولتي المصب، بإنشاء آلية تنسيقية مناسبة فيما بينها، فإنّ إثيوبيا تماطل أيضاً في استحداث تلك الآلية بحجة أنه يمكن وضعها بعد إتمام الملء الأول.

والواقع أنّ الصياغة غير المحكمة لاتفاق المبادئ، تعدّ من الأسباب الرئيسية التي أوقعت مصر في هذا المأزق. فعلى الرغم من أحقيتها، وفق قواعد القانون الدولي وسوابق المحاكم الدولية، في الحصول على إخطار مسبق بأي تصرف على النيل سيؤثر على حصتها من المياه، فإنّ تمسكها قبل أديس أبابا باتفاق المبادئ وحده لا يكفي لإقناع العواصم العالمية بمنطقية مطالباتها بالاتفاق على جميع النقاط المستقبلية العالقة قبل الملء الأول.

وهذه النقطة تعدّ من الأسس التي تحاول بها إثيوبيا تصوير نفسها كطرف أضعف ويتعرض للغبن من مصر والولايات المتحدة في إطار مفاوضات واشنطن الأخيرة، فهي تحاول إيهام الرأي العام العالمي بأنها لا تمانع في الاتفاق ولكن من دون التقيّد بذلك كشرط لبدء الملء الأول.

وفي هذا السياق، قال مصدر دبلوماسي أوروبي في القاهرة لـ”العربي الجديد” إنّ سفارات الدول الأوروبية والدول الأعضاء في مجلس الأمن بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا تلقت رسائل عدة على مدار الأسبوع الماضي من وزارتي الخارجية والري هناك، لتوضيح الأسس التفاوضية مع المصريين والسودانيين، والتي كان من بينها أن حكومة أبي أحمد لن تتراجع عن بدء عملية الملء الأول في يوليو/ تموز المقبل.

وتتذرع إثيوبيا بأنّ جدول التشغيل الخاص بالسد والاتفاقات المبرمة مع عدد من الشركات الصينية والإيطالية المختصة بالإنشاءات، مرتبطة بتشغيل توربينين وردتهما الشركة الفرنسية “جي أو هيدرو فرانس” و5 وحدات لتوليد الطاقة، بتكلفة تصل إلى 62 مليون دولار، وذلك قبل ربيع العام المقبل.

وأضاف المصدر الأوروبي أنّ إثيوبيا أبلغت السفارات بأنها لا تمانع استكمال المفاوضات الفنية على أساس اتفاق المبادئ، من دون أي إشارة لمفاوضات واشنطن، وهي ترحب بتدخل “الدول والمنظمات الصديقة” مثل الاتحاد الأفريقي. الأمر الذي ترفضه مصر بطبيعة الحال، فإذ تستشعر بأنّ الاتحاد الأفريقي يميل لتأييد المواقف الإثيوبية منذ بداية الأزمة.

وحث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقيه، أخيراً، الدول الثلاث على استئناف التفاوض الفني والتعاون حول مشروع السد، من دون أي إشارة أيضاً إلى مفاوضات واشنطن، الأمر الذي اعتبرته مصر في الكواليس رسالة مبطنة بتأييد أديس أبابا.

وفي سياق النشاط الإثيوبي اليومي للدفاع عن موقف ملء السد، عادت حكومة أبي أحمد لتدعيم الجبهة الداخلية وإرسال رسائل طمأنة للأحزاب والقوى الاجتماعية في البلاد للتأكيد على مضيها قدماً في خطة الملء. إذ عقدت أمس الأربعاء مؤتمراً وطنياً جديداً، هو الثالث هذا العام، جمع قيادات جميع الأحزاب السياسية في البلاد، تحت شعار “سدّنا رمز الوحدة والسيادة”، للحث على التركيز على هذه القضية حالياً وإرجاء الخلافات السياسية الداخلية التي تسبق الانتخابات العامة، غير معروفة الموعد حتى الآن بسبب إرجائها عن موعدها الذي كان مقرراً في أغسطس/ آب المقبل، بسبب جائحة كورونا.

وتحدث وزير الخارجية جيدو أندارجاشيو، في بداية المؤتمر، قائلاً إنّ “السد سيساعد إثيوبيا على انتشال شعبها من مستنقع الفقر باستخدام مواردها المائية”، وأنّ الحكومة “تؤكد أنّ ملء السد وتشغيله وفقاً لخطتها لن يلحق ضرراً كبيراً بدولتي المصب”. واتهم أندارجاشيو مصر بأنها “تحاول عرقلة المشروع التنموي وتكريس هيمنتها على مياه النيل، استناداً إلى معاهدات استعمارية غير عادلة وغير مقبولة”.

وأرسلت مصر مطلع الشهر الحالي خطاباً لمجلس الأمن بلهجة لا تخلو من الرجاء لاتخاذ ما يلزم لاستئناف مفاوضات ملء وتشغيل السد. وتضمن الخطاب وصف الخطر الاستراتيجي الذي قد تشهده المنطقة جراء الممارسات الإثيوبية بأنه “تطور محتمل”، علماً بأنه يستحيل أن يصاحبه – بحسب مراقبين – تحضير لتحرك عسكري مصري، إذ إنّ ذلك سيكون بالتأكيد أمراً غير مرغوب فيه من القوى العظمى ولا مرحباً به في المنظومة الأممية.

وفي خطابها لمجلس الأمن، كشفت مصر أن إثيوبيا عرضت أن يتم الاتفاق فقط بين الدول الثلاث على قواعد الملء والتشغيل لأول عامين، وهو ما اعترضت عليه مصر والسودان، ليس فقط لأنه يتجاهل تنظيم فترة الملء كاملة، ويتناقض مع القواعد التي سبق الاتفاق عليها، ولكن أيضاً لأنه يتناقض مع اتفاق المبادئ الذي يؤكد عدم الملء قبل التوصل إلى اتفاق شامل.

وقدمت إثيوبيا رداً على الخطاب المصري لمجلس الأمن، تضمن التشديد على أنّ الملء الأول لن يضر بدولتي المصب نظراً لأنه يتزامن مع الفيضان، وأنه لا ينتهك اتفاق المبادئ، ويمكن فصل قواعد الملء والتشغيل في السنوات التالية عن فترة الملء الأول.

وتزعم إثيوبيا أنّ مصر ليس لها الحق في أن تتداخل معها في كيفية إدارة السدّ، إلا بعد الوصول لمستوى التخزين الذي يؤثر فعلياً على حصتها من المياه، علماً أنّ جميع توربينات السد ستكون جاهزة للعمل عند اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب، مما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي سوف بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.