من يتأمل حال العراق، يجدُ أنه يتميز بثروات طبيعية هائلة، فحينما تَذكُر “بلاد الرافدين” فإنكَ تتحدث عن بلدٍ تجاوزت احتياطياتها المؤكدة من النفط 147 مليار برميل، ومن الغاز الطبيعي 135 مليار قدم مكعب.
هذه الثروات كان من المفترض أن تجعل الشعب العراقي من أغنى شعوب العالم؛ بأتمِّ معنى الكلمة، غير أن الواقع المفزع يقول إن العراقيين “فقراءَ فُقْرَ مَن يَملك؛ ولا يعرفون أنهم يملكون، أو لا يستطيعون أن يستغلوا ما يملكون”. فبينما تزداد الطبقة السياسية الحاكمة تخمة، فإن كثيرًا من المواطنين يبحثون وسط أكوام القمامة عن طعام يسد جوعهم أو ملابس باليةٍ تستر أجسادهم التي أنهكها الفقر.
فبحسب وزارة العمل العراقية توجد أكثر من مليون أسرة تعيش تحت خط الفقر، رغم أن موازنات البلد منذ عام 2003 وحتى نهاية عام 2019 بلغت نحو ترليون و 400 مليار دولار. ليس هذا فحسب، بل إن الإحتياطي العراقي من النقد الأجنبي تآكل بشكل كبير، فخلال 3 سنوات هبط من 88 مليار دولار إلى 43 مليارًا فقط، بالإضافة إلى عشرات المليارات من الدولارات كديونٍ خارجية.
استشراء الفساد
بالنسبة لغالبية المواطنين العراقيين يُعتبر الحديث عن حجم الفساد في بلدهم وأرقامه المهولة؛ غير مجدٍ، كونهم يؤمنون بالمطلق أنهم يعيشون في أكثر دول العالم فسادًا، فهم يرون الفساد في الإعلام والشارع والمؤسسات، وفي تصريحات المسؤولين وخطاباتهم. بل بات المسؤولون يُقرِّون علنًا بالتورط فيه دون خوفٍ من القانون أو خجلٍ من الشعب.
في تصريح لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، قال إن الفساد أفقدَ البلاد 450 مليار دولار من أصل 850 مليار دولار أقرت كموازنات للبلاد بين عامي 2003 و 2015، مع وجود ناتج محلي للموظفين الحكوميين بمقدار 6%، فقط أي بمقدار 20 دقيقة عمل في اليوم.
وهذا المبلغ الهائل الذي ذكره عبدالمهدي يُعادل ما تنفقه دول الخليج مجتمعة في عام واحد، وهو يكفي لتشييد 600 ناطحة سحاب بحجم وكلفة برج التجارة العالمي WTC في مدينة نيويورك.
بدورهم، يشكك كثير من المواطنين في كل تلك الأرقام، ويعدّونها قاصرةً عن إحصاء ما ضيعته الحكومات المتعاقبة من أموالٍ وثرواتٍ كانت كفيلة بوضع العراق في مصافِ الدول المتقدمة. فهم يرون أن من وَقَعَتْ بأيدهم أموال البلد الطائلة “تفنّنوا في ابتكار أساليب التزوير والاحتيال والابتزاز، وكل ما من شأنه أن يتيح السرقة، إذ لا رقيب ولا حسيب، واليد الطولى لمن يسرق أكثر” على حد وصفهم.
شواهد وأدلة
نستعرض لكم أبزر فضائح الفساد التي حدثت منذ عام 2003، ولغاية اليوم والتي يمكنها أن تُجيب على السؤال الذي حيَّر كثيرين، وهو: كيف سُرقت كل هذه المليارات؟
– مزاد العملة والمشاريع الوهمية
تتحدث بيانات رسمية، عن قيام البنك المركزي العراقي ببيع قرابة 312 مليار دولار عبر مزاده لبيع العملة منذ استحداثه، وكان مصير 80% من تلك المبالغ؛ التسرّب إلى خارج البلاد، وهو ما ألحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد.
أما المشاريع الوهمية فحدث ولا حرج، حيث كشف عضو لجنة الخدمات في البرلمان، النائب جاسم البخات، عن وجود أكثر من 6 آلاف مشروع وهمي منذ عام 2003 وحتى الآن، كلّفت العراق ما قيمته 178 مليار دولار، من بينها مجمعات سكنية وسياحية وأخرى خدمية، جرى وضع حجر الأساس لها لكنها انتهت إلى المجهول ولم ترَ النور، رغم أن مبالغها تم صرفها من الموازنة العامة. ولا يجرؤ أحد على فتح هذا الملف لأن كثيرًا من الزعامات السياسية متورطة فيه.
– أجهزة كشف المتفجرات:
في عام 2007 استوردت الحكومة العراقية نحو 6 آلاف جهاز لكشف المتفجرات، أو ما يُعرف بـ(السونار)، بكلفة بلغت مئتي مليون دولار، وتبيّن بعدها أن الأجهزة مزيفة، وذهبت الأموال إلى جيوب القائمين على هذه الصفقة. والشيء المحزن هو مقتل عشرات الآلاف من العراقيين بسبب السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي كان من المفترض أن تكشفها تلك الأجهزة المزيفة.
– رواتب المسؤولين.. الحمايات والمستشارين:
حمايات المسؤولين بابٌ آخر من أبواب الفساد الذي أرهق الميزانية في العراق، بعد أن أصبحوا جيشًا آخر في البلد، حيث كشف عضو مجلس النواب السابق، القاضي وائل عبد اللطيف أن عدد أفراد حمايات كبار المسؤولين والوزراء تجاوز 25 ألف عنصر، ويضاف إلى هذا العدد عدد كبير جدًا من حمايات أعضاء البرلمان، ورؤساء وأعضاء مجالس المحافظات، والمحافظين، ونوابهم، وأعضاء مجالس المحافظات، والمديرين العامين، ووكلاء الوزارات. وهو ما يكلف الدولة نحو 6 مليارات دولار سنويًا، بحسب القاضي.
– تهريب النفط:
تفقد الخزينة العراقية التي تعتمد بنسبة 95% في ميزانيتها على النفط الخام، مليارات الالدولارات سنويًا، بفعل تهريب النفط من قبل متنفذين وأحزاب سياسية ومليشيات مسلحة، إلى دول أخرى. وغالبًا ما يتم التهريب عن طريق موظفين كبار في وزارات النفط والداخلية والجمارك.
فبحسب مصدر في وزارة الداخلية العراقية، فإن الاستخبارات الأمريكية وفرت معلومات تفصيلية لحكومة بغداد عن حجم عمليات التهريب، والجهات المستفيدة من هذه العمليات. وأكد المصدر لشبكة “INP+”، أن واشنطن شخصت 56 جهة عراقية تشارك في عمليات التهريب، وأن الأموال المحصّلة تُقدَّر بنحو 4 مليارات دولار سنويًا.
– صفقات الأسلحة
بلغت قيمة عقود التسليح التي أبرمتها الحكومات العراقية منذ 2003 حتى عام 2016 أكثر من 150 مليار دولار. خسر العراق عشرات المليارات في هذه الصفقات دار حديث كثير حولها، وكُشِفَت وثائق كثيرة بخصوصها. فالرئيس الأسبق للحكومة نوري المالكي وحده؛ متهم بقضايا فساد في صفقات السلاح تتجاوز قيمتها 44 مليار دولار.
– وزيرٌ و 9 قضايا فساد
وزير التجارة الأسبق عبد الفلاح السوداني وحده تورط في ما لا يقل عن 9 قضايا فساد، تتجاوز قيمتها 4 مليارات دولار، وصدرت بحقه 8 أحكام غيابية بالسجن، لكنه هرب من البلاد. بعد ذلك تسلمت الحكومة الوزير الهارب من الإنتربول الدولي في عام 2017، لكن تم أُطلق سراحه بعفو عام بعد 8 أشهر فقط من الحكم عليه بالسجن لمدة 21 عاما.
– فساد الكهرباء
يُقدَّر حجم ما تم إنفاقه على قطاع الكهرباء في العراق، منذ عام 2006 حتى عام 2018، بـ 28 مليار دولار، وفق تقارير رسمية، ورغم هذا الإنفاق الهائل إلا أن العراقيين مازالوا يعانون من الإنقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، والذي يصل أحياناً إلى 18 ساعة في اليوم. ويرى خبراء اقتصاديون أن هذا المبلغ كان كافيًا ليس فقط لإنتاج كهرباء تكفي البلد، بل وتصديرها إلى الخارج أيضًا.
– 50 ألف “فضائي”
في نوفمبر 2014، كشف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، عن وجود أكثر من 50 ألف موظف “فضائي” في وزارة الدفاع وحدها، ويتقاضون رواتب بمئات الملايين. و“الفضائي” هو وصف يُطلقه العراقيون على الشخص المُسجّل في دوائر رسمية حكومية، ويتقاضى رواتب، من دون أن يظهر أو يعمل.
– الاستيلاء على عقارات الدولة:
بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، استولت شخصيات سياسية ومسؤولون وأحزاب، على أراضٍ ومقار وبنايات تعود ملكيتها إلى الدولة، في العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى، يقدر ثمن هذه البنايات بعشرات المليارات، ولم تستطع الجهات المسؤولة عن هذه العقارات، الانتفاع منها أو انتزاعها من المسيطرين عليها حتى الآن.
وبعد أن عجزت الحكومة عن استعادتها، لجأت إلى استئجار عدد كبير من العقارات واتخذتها بعض الجهات الحكومية كمقرات لها، وهو ما زاد ميزانية الدولة عبئًا فوق عبئها.
اضف تعليقا