العدسة – موسى العتيبي

“سبوبة الإعمار في العراق” ربما يكون ذلك التعبير هو الأنسب لتلك المليارات التي ذهبت سدى، ولا زالت تذهب لمكان مجهول منذ ما يزيد عن 14 عاما في العراق.

فمنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين، ولا تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية، ولا المؤسسات الدولية، ولا حتى الحكومات العراقية المتعاقبة، عن الحديث عن إعادة الإعمار ورصد مليارات الدولارات لكن من دون جدوى.

الأموال التي خصصت لإعمار العراق تخطت الـ2 ترليون دولار وفقا لمراقبين، وهو ما يكفي لإعمار عدة دول، لكن المحصلة النهائية صفر!، فالعراق لم يعمر بعد، ولايزال غارقا في بحر العنف والقتال، وكل مؤسساته متهالكة ومنهارة، والخراب أصاب كافة القطاعات من تعليم وصحة وكهرباء، وبنية تحتية، وطرق ومباني سكنية وإنشاءات خاصة وعامه، وغير ذلك.

ومؤخرا باتت الدولة النفطية الهامة، تعاني من ظروف اقتصادية بالغة السوء، دفعت ببعض المنظمات ومراكز البحوث الدولية والمحلية للحديث عن توقع أن يعلن العراق إفلاسه في وقت قريب، مالم تحصل معجزة تغيّر الوضع السيئ الراهن، فكيف يمكن لبلد نفطي أن ينهار بهذه السهولة؟ وأين هي أموال العراق؟ وأين الأموال التي خصصت لإعمار العراق على مدار تلك السنوات؟

750 مليونا من صندوق النقد

لنبدأ إذا بآخر الأرقام التي أعلن عنها لإعادة إعمار العراق، حيث وافق البنك الدولي الأسبوع الجاري، على منح مساعدات مالية بقيمة 400 مليون دولار للمساهمة في إعادة إعمار العراق، بعد تحرير العديد من المدن من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

البنك الدولي قال إن حزمة المساعدات تهدف إلى “مساندة جهود التعافي وإعادة الإعمار والتأهيل لمرافق البنية التحتية ذات الأولوية من أجل استعادة تقديم الخدمات العامة في المناطق العراقية المحررة حديثا من قبضة تنظيم داعش”، وفقا لقوله.

وأضاف البيان أن هذه المساعدات تمثل تمويلا إضافيا لمشروع العملية الطارئة للتنمية في العراق المقدرة بـ350 مليون دولار، الذي تمت الموافقة عليه في يوليو2015 ويجري تنفيذه في سبع مدن في محافظتي ديالى وصلاح الدين.

وبالتركيز البسيط مع ما ورود في بيان “البنك الدولي” سيتضح أنه خصص في عامين فقط نحو 750 مليون دولار، لإعادة الإعمار، ومع ذلك لم يسمع أحد عن مصير تلك الأموال فأين ذهبت؟!

33 مليارًا بمؤتمر المانحين

وبالعودة بالتاريخ إلى مؤتمر المانحين الذي عقد في مدريد في شهر أكتوبر عام 2003، أي بعد الغزو الأمريكي للعراق بعدة أشهر، نجد أن التحالف الذي غزا العراق بقيادة أمريكا وقتها قد أعلن عن عقد مؤتمر لدول المانحين الراغبين في إعادة إعمار العراق.

المؤتمر عقد في مدينة “مدريد” الإسبانية، بمشاركة 73 دولة و20 منظمة دولية، وتعهدوا وقتها بتقديم 33 مليار دولار لإعمار العراق.

الولايات المتحدة الأمريكية وقتها تعهدت بتقديم إسهام إضافي قدره 3.20 مليار دولار، ليرتفع اجمالي الدعم الى أكثر من نصف الاحتياجات المقدرة للعراق والبالغة 56 مليار دولار حتى عام 2007.

فيما أعلن صندوق النقد الدولي أنه سيقدم مساعدة إجمالية يمكن أن تتراوح بين 2.5 إلي 4.25 مليار دولار خلال السنوات الثلاث، وأكد البنك الدولي أنه سيقدم قرضا إلى العراق يتراوح بين 3 و5 مليارات دولار.

واعتبرت هذه الإسهامات وقتها بمثابة انعكاس للانقسامات الدولية حول الحرب في العراق، حيث كانت الدول المؤيدة للحرب مثل اليابان وبريطانيا وإسبانيا من بين أكثر المانحين سخاء.

60 مليارا ابتلعها الجيش الأمريكي

بعد حل سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق عام 2004، تم تفويض الحكومة الأمريكية من قبل حكومة العراق لإدارة أموال صندوق تنمية العراق، التي أتيحت لمشاريع إعادة الإعمار، وقامت وزارة الدفاع الأمريكية بإدارة أموال الصندوق المذكور نيابة عن الحكومة الأمريكية.

لكن سرقات ضخمة وعمليات فساد طالت أموال تنمية العراق أو إعادة إعمارها على مدار السنوات الماضية، ومن ذلك على سبيل المثال ما كشفته هيئة فيدرالية أمريكية عام 2010، حيث قدمت تلك الهيئة تقريرا أكدت فيه أن الجيش الأمريكي لا يستطيع تحديد أين ذهبت مليارات الدولارات التي حصل عليها لإعادة إعمار العراق.

وقتها أكد المفتش العام المختص بإعادة إعمار العراق في تقرير خاص، أن وزارة الدفاع (البنتاغون) لم تتمكن حتى الآن من تحديد وجهة إنفاق 96 % من تلك الاموال.

وقال وفقا لما نشره موقع بي بي سي عربي آنذاك: إن هناك ما يزيد قليلا عن 9 مليار دولار، كانت قد خصصت لإعمار العراق، وتلقاها الجيش الأمريكي، لكنه لم يستدل عليها بعد.

وفي رد لها مرفق بالتقرير قالت وزارة الدفاع الأمريكية: إن محاولة الاستدلال على وجهة الأموال ربما يتطلب “جهدا كبيرا للبحث في الأرشيف”.

لكن المثير في الأمر أن تلك الأموال كانت مستقلة أيضًا عن مبلغ 53 مليار دولار كان قد خصصه الكونغرس الامريكي لإعادة إعمار العراق.

وجاءت تلك الأموال من مبيعات النفط والغاز العراقي، وبيع أصول مجمدة من حقبة صدام حسين.

وكانت تلك الأموال في صندوق خاص يديره الجيش الأمريكي، هو صندوق تنمية العراق، وتم تخصيصها لإعادة إعمار العراق.

إلا أن التقرير قال إن غياب أساسيات المحاسبة وعدم الإشراف يجعل من المستحيل معرفة أين ذهب أغلبها، مرجعا ذلك إلى عدة عوامل تتعلق بالتوثيق والفواتير الدقيقة.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها اتهامات بإهدار المليارات في سياق غزو العراق وما تلاه، حيث إنه في عام 2005 انتقد المفتش العام سلطة الائتلاف المؤقتة بسبب 8.8 مليار دولار كانت تخص الحكومة العراقية.

وأجري تحقيق جنائي في الأمر، خلص إلى إدانة ثمانية مسؤولين أمريكيين بتهم الرشوة والفساد وغسيل الاموال.

وخلال الانتخابات الأمريكية العام الماضي، ألمح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى تلك السرقات والفساد الذي شهدته العراق تحت ذريعة الإعمار، وصرح قائلا في أحد مؤتمراته: دعونا نسأل عن المال العراقي، وأين ذهبت الملايين والمليارات من الدولارات التي عثروا عليها لحظة اقتحامهم القصور الرئاسية والمصارف الحكومية؟ أريد أن أعرف أين هؤلاء الجنود؟ الذين كانوا في العراق، لأنني أعتقد أنهم يعيشون بشكل جيد في الوقت الراهن”.

مشاريع بلا فائدة

وفي مارس 2013، أظهر تقرير حكومي أمريكي نشرت تفاصيله جريدة “التايمز” البريطانية، أن غالبية مشاريع إعادة إعمار العراق التي تم تنفيذها أو بدأ العمل بها خلال السنوات الماضية كانت أصلاً “لا يحتاجها العراقيون أو أنهم لا يريدونها”.

 

وقال المحقق العام ستيوارت بون، في التقرير الذي قدمه للكونجرس الأمريكي: إن المشاريع التي تم تنفيذها في إطار إعمار العراق، خلال السنوات الماضية، لم يتم التشاور بها بصورة كافية ومناسبة مع العراقيين، فضلاً عن أن الكثير منها كان يتوقف في منتصف الطريق، أو لا يتمكن العراقيون من الحفاظ عليه بعد اكتماله.

 

وأشار التقرير الأمريكي المكون من 171 صفحة الى أن الولايات المتحدة أنفقت 60.5 مليار دولار على مشاريع لإعادة إعمار العراق خلال السنوات العشر الماضية إلا أن سدس هذه الأموال تمت سرقتها أو تم تبديدها، أي أن 10 مليارات دولار تم نهبها في السنوات العشر الماضية، وبمعدل مليار دولار سنويًّا، فضلا عن المليارات التي تم وضعها في مشاريع بلا فائدة.

 

سماسرة الإعمار

إلى جانب إهدار وسرقات الأموال العراقية على يد الجيش الأمريكي، فإن هناك شريحة أخرى عراقية ساهمت في إهدار المليارات كذلك، وتتمثل تلك الشريحة في “المقاولين، أو سماسرة الإعمار”.

ووفقا لمراقبين فإن كثيرا من اللصوص والمنتفعين باتوا من كبار رجال الأعمال في العراق نتيجة العمل في المقاولات مع المحتل الأمريكي، ومع الحكومة العراقية تارة أخرى، حيث يقوم المقاولون بمضاعفة قيمة المنشآت أو المشاريع التي يشرفون على إقامتها عدة أضعاف دون أن يكون هناك رقيب، وتُمرر الأرقام بأريحية شديدة في ظل انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية.

وتنفَّذ الكثير من مشاريع البنى التحتية في العراق عبر مقاولات يتم بيعها من المقاول الرئيسي إلى مقاول آخر يقبض ثمنها من مقاول آخر، وفي النهاية فإن المبلغ الحقيقي الذي يصرف على المشروع متواضع جدا مقارنة بالمبلغ الأصلي الذي ضاع بين سلسلة وسطاء.

ووفقا لصحيفة المونيتور الأمريكية، فإن أغلب المشاريع التي تقام في العراق كمشاريع إعمار تتضمن حصصا لمسؤولين حكوميين ومقاولين كبار يرتبطون بهم، ثم تباع لمقاولين منفذين وبسعر يضمن إنشاءها في الحد الأدنى من المواصفات وبأقل التكاليف.

ترليون دولار

الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، مسؤولة هي الأخرى عن إهدار المليارات من أموال الإعمار، سواء تلك التي أخذتها من موازنة الدولة والنفط بالعراق، أو التي وصلت إليها عن طريق المنح والمساعدات الخارجية.

ووفقا لتقرير سابق لـ”العربي الجديد” فإن بعض المتابعين لحكومة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، اتهموه بالتلاعب بمبالغ الميزانيات في العراق وإهدار مئات المليارات.

الصحيفة نقلت تصريحات لوزير النفط، عادل عبد المهدي، في السابق، أكد فيها أن موازنات العراق منذ عام 2003 وحتى نهاية عام 2014 قد بلغت 850 مليار دولار، ويتجاوز هذا المبلغ ترليون دولار إذا أضفنا إليه موازنة عام 2015 وفروقات أسعار النفط في عامي 2013 و2014، حيث قدرت بأقل من الأسعار العالمية.

كما أن نائب رئيس الجمهورية العراقي الأسبق، طارق الهاشمي، أكد للصحيفة أن “المالكي، وعلى مدى سنوات حكمه الثماني، لم يقدم ولا مرة واحدة الحسابات الختامية”، مؤكداً أن “هذا ليس خللاً إدارياً وماليًّا فحسب، بل هو يعبر عن مظهر من مظاهر الفساد”.

وحول أسباب هذا السلوك الحكومي، قال :”لا أنا ولا غيري يملك الجواب على هذا السؤال، ولكن من الواضح أنه – أي المالكي – يدرك أن الأموال ذهبت في الغالب إلى جيوب السارقين والمرتشين”.

ويضيف: “بدل اقتطاع المزيد من الموارد لأغراض التنمية، والإعمار وتحسين الخدمات، وإحياء الصناعة الوطنية المتهالكة التابعة للقطاع الحكومي، نجد أن العكس حصل، حيث جرى تعظيم المصاريف الجارية أو التشغيلية، وهو شكل من أشكال الفساد”.

الكويت تدعو للإعمار

بعد أكثر من 14 عاما على الخراب الذي حل بالعراق بسبب الاحتلال تارة، والنزاعات الطائفية تارة أخرى، والحروب على داعش، عادت دولة الكويت من جديد للدعوة إلى إعمار العراق.

وفي أغسطس الماضي، أعلن نائب وزير الخارجية الكويتي خالد الجارالله أن بلاده بدأت اتصالات واسعة مع دول العالم والبنك الدولي والعراق، لاستضافة مؤتمر لإعادة إعمار مناطق العراق المحررة من سيطرة “داعش”.

ونقلت وكالة الأنباء الكويتية عن الجارالله قوله على هامش مشاركته في حفل للسفارة العراقية بمناسبة تحرير مدينة الموصل، إنه لم يتم تحديد موعد لعقد المؤتمر “إلا أنه يرجح أن يكون في الربع الأول من العام المقبل”.

ولم يعرف بعد الاستجابة الدولية لهذا المؤتمر، ولا حجم الأموال التي ستجمع له، وهل ستذهب بالفعل لإعمار العراق، أم سيكون مصيرها كمصير المليارات الأخرى!.