تتوالى الأحداث في المنطقة العربية بوتيرة متسارعة، وتشهد تطورات متلاحقة ومتشابكة في أكثر من ملف، نظرا للصراع المحتدم بين القوى الكبرى والإقليمية على بسط النفوذ وإعادة رسم خريطة المنطقة إثر تقزيم خطر تنظيم الدولة وخفوت الحلم الكردي بالاستقلال.

فقد مثل بزوغ نجم  تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014- إثر سيطرته على الموصل ومناطق شاسعة في شمال وغرب العراق  فضلا عن الشام- تحديا  جديا لدول الجوار الإقليمي فضلا عن الدول الكبرى، ومن ثم ركزت تلك الدول جهودها على حرب التنظيم وخففت من مستوى التصعيد المتبادل فيما بينها، ولكن عقب  سقوط الموصل و المدن التي سبق أن سيطر عليها التنظيم في قبضة الحشد الشيعي المدعوم أمريكياً وإيرانياً، والنظام السوري المدعوم إيرانياً وروسياً، والمليشيات الكردية المدعومة أمريكياً، وأيضا عقب تلاشي حلم البرزاني باستقلال كردستان عن العراق، صار الخطر الإيراني هو الخطر الأبرز للعيان بالنسبة للعديد من القوى الإقليمية. مما ساهم في بروز تحالف (إسرائيلي – إماراتي- سعودي- مصري) مناهض للمشروع التوسعي الإيراني. ومناهض للإسلاميين والدول المتسامحة معهم مثل قطر وتركيا.

التمدد الإيراني والقلق الإسرائيلي:

وظفت إيران الأحداث لترسيخ تواجدها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وتحكمت فعليا في صناعة القرار السياسي بالبلدان الأربعة.  وصارت تمتلك لأول مرة تواجدا بريا متصلا يمتد من طهران إلى دمشق مرورا ببغداد، أي أنها أصبحت وجها لوجه مع إسرائيل مما يمثل خطرا على توازن  القوى بين البلدين، لذا لم يعد يكفي إسرائيل توجيه ضربات انتقائية لقيادات حزب الله مثلما فعلت مع (مصطفى بدر الدين وسمير القنطار).  فقد أزفت لحظة المواجهة، وصارت إسرائيل بين خيارين إما أن تترك إيران تتمدد وتبتلع الخليج والمنطقة بأسرها، وإما أن توجه ضربة تحجيمية لإيران تجعلها تنكمش وتعود للخلف.

ولذا تغاضت إسرائيل مؤخرا عن جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية بين حماس وفتح ،لأنها تريد تهدئة الأوضاع مع حماس في الجنوب كي تتفرغ  لمواجهة الخطر الإيراني في الشمال، وفي نفس السياق حرصت إسرائيل على مد جسور العلاقات مع الإمارات والسعودية لتكوين تحالف رباعي يشملهم مع مصر لمواجهة الأعداء المشتركين، ومن هنا نفهم صفقة جزيرتي تيران وصنافير، والتغير المفاجئ في الموقف المصري من حركة حماس، وسعي نظام السيسي فجأة  لإتمام المصالحة الفلسطينية بأسرع ما يمكن.

تحولات السعودية وطموحات ابن سلمان:

أما السعودية ، فإثر تولي الملك سلمان للحكم سعى للتقارب مع تركيا لتشكيل تحالف معها ضد إيران، وشن  الملك عملية عاصفة الحزم ضد التمدد الحوثي باليمن ، بعد أن كانت جهود السعودية باليمن تتركز على كبح جماح الإسلاميين لا الحوثيين، ولكن لعب طموح محمد بن سلمان لتولي الحكم والقضاء على منافسيه من أمراء آل سعود ، بوابة للنفوذ الإماراتي فتغيرت خارطة التحالفات الإقليمية السعودية. وتوسطت الإمارات لابن سلمان عند الرئيس الأميركي “ترامب” ، ورعت صفقة  تاريخية تعهد فيها ابن سلمان  بتقديم أموال بمئات المليارات من الدولارات لدعم الاقتصاد الأميركي، وبقبول التحالف مع إسرائيل، مقابل السماح له بالاقتراب من منصب الملك في السعودية. وفي هذا السياق حدث أمران:

-الانقلاب المفاجئ في الموقف السعودي من قطر، والذي تشير تصريحات الساسة القطريين والغربيين إلى أن العمل العسكري كان خيارا مطروحا من قبل السعودية للإطاحة بالنظام القطري وتنصيب نظام آخر بدلا منه. لأن قطر تغرد خارج السرب الإماراتي السعودي.

-التباعد مع تركيا إثر فشل الانقلاب العسكري المدعوم إماراتيا وأمريكيا في الإطاحة بأردوغان، والذي جعل الأخير ينكفئ على نفسه وينشغل بأموره الداخلية، ويتقارب مع إيران وروسيا للتنسيق من أجل منع استقلال كردستان.

ومن ثم بدأ ابن سلمان مؤخرا يلعب لعبته الخطرة والجريئة سواء :

1-داخليا بإطاحته بنجل عمه محمد بن نايف من منصب ولي العهد فضلا عن القبض على كبار أمراء الأسرة المالكة والمقربين منهم من الوزراء ورجال الأعمال، في تصرف مماثل لما فعله مع عدد كبير من الشيوخ والدعاة والشخصيات العامة المحسوبة على التيار الإسلامي. وهى الإجراءات التي حظيت بدعم علني من الرئيس الأميركي الذي اتصل بمحمد ابن سلمان صبيحة اعتقاله لكبار أمراء الأسرة المالكة مشجعا إياه على المضي في إجراءاته للحفاظ على أمن وسلامة المملكة !! ومغردا بعدها على تويتر بأن المقبوض عليهم حلبوا أموال السعودية عبر عقود، ويكأن ترامب يريد أن ينفرد وحده بحلب أموال الخليج. فضلا عن زيارة  مستشاره وزوج نجلته “كوشنر” لابن سلمان سرا لترتيب التحركات الأخيرة.

2-خارجيا: بضغطابن سلمان على رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” لإعلان استقالته من منصبه بالتوازي مع شن الحريري هجوما حادا على حزب الله وإيران لسحب الغطاء السياسي عن الحزب، مما يجعل الأخير يقف عاريا في مواجهة أي هجوم إسرائيلي مرتقب. فضلا عن تصعيد ابن سلمان لحالة التوتر في اليمن بنشره قائمة مطلوبين من كبار القادة الحوثيين ووضعه مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات عنهم، بالإضافة لزيادة وتيرة القصف الجوي والعمليات العسكرية، مما يؤشر لرغبة ابن سلمان في اشغال إيران باليمن، بينما تعالج إسرائيل الخطر الإيراني في لبنان وسوريا.

الرد الإيراني على التصعيد الأخير

في المقابل تسعى إيران لتجنب الصدام حاليا مع إسرائيل نظرا لإدراكها التكلفة الباهظة لخوض هكذا صراع، لذا نجد حزب الله يتجنب الرد على الاغتيالات الإسرائيلية العلنية والمتكررة  لقياداته وكوادره، وهو ما لم يكن الحزب يسكت عنه سابقا، حتى أن كلمة “حسن نصرالله” مطلع هذا الأسبوع ردا على قرار استقالة الحريري، حرص فيها على الإشادة بتيار المستقبل وأشار إلى احتمال احتجاز الحريري في السعودية، وتجنب توجيه تهديدات عنترية لإسرائيل، وسعى لتحميل السعودية مسؤولية استقالة  الحريري والمشاكل في المنطقة، وهو ما ردت عليه السعودية في اليوم التالي بالسماح للحريري بلقاء الملك سلمان ونشر صور اللقاء لتبديد الأقاويل عن احتجازه بالمملكة.

أما الرد الإيراني على التصعيد السعودي، فقد جاء من اليمن بإطلاق الحوثيين لصاروخ طويل المدى على مطار الملك خالد  بالعاصمة السعودية  الرياض، فضلا عن تصريح الحوثيين بأن الصاروخ القادم سيطال إمارة أبوظبي.

التطورات المتوقعة

في تلك الأجواء يمكن التنبؤ بعدة مسارات تتطور خلالها الأحداث:

1-إندلاع مواجهة إسرائيلية إيرانية في لبنان قد تمتد لسوريا، فإسرائيل لن تخوض مجددا حربا محدودة مع حزب الله، إنما ستسعى لخوض حرب استئصال شبيهة لما فعلته مع منظمة التحرير الفلسطينية بلبنان عام 1982  بالتوازي مع تكثيف السعودية وحلفائها لهجماتهم على الحوثيين باليمن، وهذا السيناريو سيشعل المنطقة بالكامل، وسيضطر إيران لتحريك أذرعها بالبحرين وشرق السعودية ، مما سيدفع السيسي للدخول في آتون الصراع دعما لحلفائه.

2- اكتفاء إسرائيل بتوجيه ضربات انتقائية لقيادات حزب الله وقوافل الأسلحة التي تمده إيران بها مثلما تفعل حاليا، وتشجيع السعودية على التصعيد باليمن ، بحيث تتعرض إيران والسعودية للاستنزاف بينما تظل تل أبيب في مأمن ولا تتدخل سوى بعد إنهاك الطرفين.

3-أن يتعرض ابن سلمان للإقصاء من المشهد على يد أمراء من الأسرة المالكة مضارين من تصرفاته، وهو ما سيفكك التحالف السعودي الإماراتي المصري الإسرائيلي، في حين سيتقارب النظام الجديد مع تركيا وقطر والإسلاميين لمواجهة المراهقات الإماراتية والمشروع التوسعي الإيراني.

4- تمزق السعودية كدولة على خلفية ممارسات ابن سلمان، الذي يدمن فتح صراعات لا يملك القدرة على إغلاقها، فلم يكتف بجبهة اليمن أو حصار قطر، بل فتح جبهة داخلية مع كبار أمراء آل سعود ورجال الأعمال والدعاة والعلماء، فضلا عن تصعيده الأخير ضد إيران، فمنطق كل شيء أو لا شيء غالبا ما يعود على صاحبه بفقدان كل شيء.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.