العدسة – منذر العلي

قبل أيام، حلت ذكرى وعد بلفور الذي استوطن اليهود بموجبه فلسطين إلى أن أصبحت لهم دولة شكلت أمرًا واقعًا، رغم اعتراف الجميع بأنه “احتلال”.

وعد من لا يملك لمن لا يستحق. هكذا أُطلق على وعد بلفور الصادر عام 1917م، لكن ربما نسي كثيرون أن هذا الوصف لا ينطبق على وعد بلفور فقط، فقدْ كان ثمة وعد آخر فقَدَ العرب بموجبه أرضًا أخرى.

فمنذ نحو 92 عامًا، وتحديدًا عام 1925م، أهدت الإمبراطورية البريطانية إقليم “عربستان” إلى إيران، لتصبح الدولة الفارسية محتلة لإقليم عربي مسلم، لكن الحديث عن هذا الاحتلال دائمًا ما يكون لأغراض أخرى أو على استحياء.

“الأحواز” بالعربية أو “الأهواز” بالفارسية “عربستان” – سابقًا – مسميات واحدة لإقليم عربي حتى النخاع يرزح تحت الاحتلال الإيراني الغاشم، الذي تتجدد بين الحين والآخر جرائمه بحق العرب الأحوازيين.

ولعل أحدث إرهاصات تلك الجرائم كان اغتيال “أحمد مولى”؛ رئيس حركة النضال العربي لتحرير الأحواز (حزم)، الأربعاء 8 نوفمبر الجاري، أمام منزله في مدينة لاهاي الهولندية.

واتهم مسؤول المكتب الإعلامي للحركة “عادل السويدي”، إيران وأتباعها بالوقوف وراء عملية اغتيال الرجل الذي تضعه السلطات الإيرانية على قوائم المطلوبين لديها منذ عام 2010م.

حركة النضال العربي لتحرير الأحواز هي إحدى الحركات الأحوازية النشطة داخل الأحواز، وتعرف بكفاحها المسلح ضد السلطات الإيرانية، وأعدمت إيران العشرات من قادتها وكوادرها خلال السنوات العشر الماضية… الحادث أعاد للأذهان الحديث عن قضية الأحواز المنسية وتاريخها.

الأحواز.. عربية بالطبيعة

يمتد إقليم الأحواز (خوزستان بالتسمية الإيرانية الحالية) على مساحة تبلغ نحو 370 ألف كيلومتر، ويفصله عن الدولة الفارسية سلسلة جبال زاجروس شرقًا، ويحده غربًا الخليج العربي، وشمالًا سلسلة جبلية أخرى هي جبال كردستان العراق، التي تفصل الإقليم العربي الأحوازي عن مناطق الأكراد، وتبدأ حدود الإقليم جنوبًا من مضيق هرمز.

وتُعد الأحواز امتدادًا للجغرافيا العربية، فهي تتصل غربًا بالأراضي العراقية، وجنوبًا تطل على الخليج العربي. كما أن أراضيها تتشابه مع أراضي العراق في التضاريس الطبيعية، والخصائص الطبوغرافية، والمناخ، والمحاصيل الزراعية، والثروات المعدنية وفي مقدمتها النفط، وحتى مناخ الإقليم أقرب كثيرًا لجارتيه؛ محافظتي البصرة والعمارة العراقيتين، منه بالمحافظات الإيرانية.

ارتبط مصير الأحواز ارتباطًا وثيقًا باكتشاف النفط، وكان بئر النفط الذي حفر في مدينة “مسجد سليمان” عام 1908م أول آبار النفط في منطقة الشرق الأوسط، وتأسست للنفط أول وأضخم مصفاة له في الشرق الأوسط في “عبدان” عام 1913م.

ويمثل نفط الأحواز شريان الحياة الأساسي والأهم لإيران؛ إذ يصدر الإقليم قرابة 80% من نفط إيران وغازها الطبيعي.

وبالإضافة لأنهار باطن الأرض، يعد الإقليم أكبر مسطح سهلي خصب في إيران؛ إذ تجري خلاله أنهار كبيرة كنهر كارون، الذي يستخدم أيضًا لعبور السفن القادمة من الموانئ الواقعة على شواطئ الإقليم، وتعد هذه الموانئ أهم موانئ إيران وأكبرها إذا ما قورنت ببقية الموانئ الإيرانية.

أصل الحكاية

يرجع تاريخ إقليم الأحواز إلى نحو 3 آلاف عام قبل الميلاد، عندما توافد على المنطقة بعض قبائل “العيلاميين” العربية وأسسوا بها حضارتهم، وتتابعت بعد ذلك الممالك على الإقليم، ففي عام 640 ق.م أطاح الآشوريون بالمملكة العيلامية، وفي عام 550 ق.م أتاها الأخمينيون الذين – بدورهم – هُزموا أمام الإسكندر الأكبر المقدوني عام 331 ق.م، واستولى السلوقيون عليها عام 311 ق.م حتى غزاها الساسانيون 221م.

وفتحها العرب عام 637م بقيادة أبي موسى الاشعري، وظلت خاضعة للبصرة حتى احتلال المغول للمنطقة 1258م.

ظلت الأحواز دولة عربية موحدة في الفترة ما بين 637م و1925م، إلا في لحظات ضعف عابرة كتلك التي تمثلت باحتلال المغول للإقليم والقضاء على الدولة العباسية هناك، وانتهت هذه الكبوة بقيام الدولة المشعشعية العربية بزعامة محمد بن فلاح عام 1436م، والتي اتخذت مدينة المحمّرة مركزًا لها، وحافظت على بقائها دولةً عربيةً مستقلة نحو 3 قرون بين دولتين عظميين؛ الفارسية والعثمانية.

وفي عام 1907م، وقّعت كلٌّ من المملكة البريطانية وروسيا الاتحادية معاهدة لتقاسم النفوذ على إيران عام 1907م، ولم تشمل المعاهدة منطقة الأحواز أو “عربستان” باعتبارها إمارة عربية مستقلة، وليست جزءًا من الدولة الإيرانية.

ويعد الشيخ “خزعل الكعبي” آخر حكام الأحواز العرب؛ ففي عهده اكتُشف أول بئر نفط في الأحواز، وشهد انهيار جاريه الكبيرين إبان الحرب العالمية الأولى؛ إذ تحولت الدولة العثمانية الضخمة إلى الجمهورية التركية الصغيرة، وانهار حكم القاجاريين في إيران، وحلت محلهم الأسرة البهلوية.

اكتشاف النفط في أراضيه وطّد علاقات الشيخ الدولية، وجعل منه مركز قوة في مواجهة الجيران، وكان حليفه الأبرز بريطانيا التي منحته في 1910م لقب “سير” وعدة أوسمة.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى توطدت مكانة الشيخ “خزعل” نظرًا للموقع الاستراتيجي لإمارة المحمرة على الخليج العربي، بالإضافة إلى قتاله بجانب جيرانه – وحلفاء بريطانيا – آل الصباح وآل سعود ضد أمراء حائل من آل رشيد الذين كانوا حلفاء الدولة العثمانية، وهو حلفٌ توجته بريطانيا بأن أرسلت قواتها لحماية المنشآت النفطية في الإقليم وتدعيم حكم أميره.

إلا أن وتيرة الأحداث كانت متسارعة؛ فمع نجاح الثورة البلشفية في روسيا أدارت بريطانيا ظهرها للرجل، وبدأت في التخلي عنه شيئًا فشيئًا حتى سقط عام 1925م في قبضة الدولة البهلوية الإيرانية.

واندلعت موجات من الثورات في أعقاب الاحتلال الإيراني للأحواز بعد أقل من 6 أشهر من سيطرة الجنود الإيرانيين على الإقليم، حتى دعم الأحوازيون الثورة الإيرانية عام 1979م ضد نظام الشاه، ونجحوا في تعطيل كامل الإنتاج النفطي، وإرباك الاقتصاد، وشل حركة البلاد، وكان الشيخ الخاقاني؛ القائد الروحي للأحواز في هذه الفترة، على اتصال بقائد الثورة الخميني قبل مجيئه إلى إيران.

ورغم التنسيق والعلاقات الودية بين ثورة الخميني والعرب الأحواز فإن تغيّرًا لم يحدث على حياة الأحوازيين، بل ازدادت قبضة الحكومة المركزية في طهران وطأة على الإقليم، وغيّرت اسمه الذي يشير لأصول سكانه العربية إلى “خوزستان”.

خزعل الكعبي - آخر حكام الأحواز العرب

خزعل الكعبي – آخر حكام الأحواز العرب

انتهاكات وحرب هوية

ورغم أن بهلوي والأنظمة التي تعاقبت بعده على الحكم حاولت سلب عرب الأحواز هويتهم من خلال سياسة القمع، ومنع تعلم اللغة العربية، وحظر ارتداء الزي العربي التقليدي، فإنهم لا يزالون يتمسكون بلغة وثقافة الأجداد.

وسياسة الاضطهاد تشمل العرب السنة والشيعة، فلم ينجح التشيع بحماية هؤلاء من ممارسات الأنظمة المتعاقبة، ولا سيما النظام الحالي الذي يدعي حماية أقليات مذهبية في المنطقة، لكنه استمر في سلب الشيعة العرب في إيران حقوقهم.

ومسيرة العرب في إيران تحفل بأكثر من 16 انتفاضة، لعل أبرزها ثورة “جنود الأمير خزعل” عام 1925 التي انتهت بقتل المئات من القيادات، والحراك الذي انطلق عام 2005 بعد تسريب وثيقة من مكتب الرئيس الإيراني محمد خاتمي.

وتنص الوثيقة، طبقًا لراضي، على تهجير نصف سكان المناطق العربية واستبدالهم بالفرس؛ بغية تغيير ديمغرافية المنطقة، في خطوة تؤكد أن معاناة العرب استمرت في ظل النظام الإيراني الجديد الذي استلم زمام الحكم بعد ثورة الخميني عام 1979م.

واستمر النظام في سياسة تهجير العرب من الأحواز، أي محافظات خوزستان وهرمزكان وبوشهر، عبر سلب الفلاحين أراضيهم وحرمان النخب من التوظيف؛ لدفعهم إلى الانتقال إلى عمق الأراضي الإيرانية والتخلي عن مناطقهم لصالح الفرس.

ورغم أن معظم نفط وغاز إيران، وفق المركز الأحوازي للإعلام والدراسات، مصدره المحافظات الثلاث، فإن السكان العرب يعانون من فقر شديد؛ حيث يخصص لهم النظام حصة من عوائد الثروة الطبيعية، ويتعمد تجاهل تنمية مناطقهم.

وبالإضافة إلى حرمان مناطقهم من التنمية، وسياسة التمييز العنصري و”الترانسفير”، تحظر السلطات الإيرانية على الأحزاب والتيارات العمل وفق الأطر القانونية، وتمنع العرب من المشاركة في العملية السياسية إلا لمن ثبت ولاؤه للنظام.

انتهاكات إيرانية ضد الأحواز

انتهاكات إيرانية ضد الأحواز

نضال من أجل الاستقلال

هذه الممارسات لم تحُل دون بروز عدة تيارات تحمل لواء الدفاع عن حقوق العرب في إيران، واستعادة حرية المنطقة عبر ما يعلنون أنه الاستقلال عن “الاحتلال الفارسي”.

ومن أبرز هذه التيارات: الجبهة العربية لتحرير الأحواز التي تأسست 1980، وحركة التحرر الوطني الأحوازي التي انطلقت بعدها بـ6 أعوام، بالإضافة إلى الجبهة الديمقراطية الشعبية، وحركة النضال العربي لتحرير الأحواز.

وينشط بعض قادة هذه التيارات والمنظمات في أراضي العرب في إيران بشكل سري، في حين دفعت سياسة “القمع” البعض الآخر إلى السفر خارج البلاد، حيث تسعى إلى تسليط الضوء على قضية لم تدرج على جدول أعمال المجتمع الدولي حتى الوقت الحالي.

ويمتد تاريخ النضال الأحوازي لنحو تسعة عقود خلت ضد الاحتلال الإيراني الجائر، لكن قضيتهم لم تجد دعمًا ولا مؤازرة من المجتمع الدولي، لتمضي إيران في مخططها في الأحواز بالتهجير والتنكيل والتجويع.

وهناك العديد من جبهات المقاومة الأحوازية؛ من أهمها:

–  الحزب الديمقراطي الأحوازي الذي تأسس عام 1998م.

–  المنظمة الإسلامية السنية الأحوازية: وهي منظمة أحوازية عربية ذات توجه إسلامي، هدفها تحرير الأحواز مما تعتبره احتلالًا من قبل إيران لها، لها وجود ميداني وإعلامي بارز في الساحة الوطنية الأحوازية.

– جبهة تحرير عربستان: تأسست عام 1956، وآمنت بالكفاح المسلح ضد الاحتلال الإيراني، ومارست أنشطة سياسية وإعلامية متنوعة، واستمرت في الكفاح تحت اسم منظمة الجبهة الوطنية لتحرير عربستان بعد اضطهاد أعضائها وإعدام قادتها الرئيسيين.

– الحزب الديمقراطي الأحوازي: بدأ كفاحه عام 1998.

– حركة النضال العربي لتحرير الأحواز.

– الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز: تأسست عام 1968، وقامت بعمليات كثيرة، وأصدرت عام 1971 صحيفة الأحواز.

– الجبهة الديمقراطية الشعبية الأحوازية.

– حزب التضامن الديمقراطي.

– منظمة تحرير الأحواز.

صرخات وسط عالم ميت!

ويحاول الأحوازيون أيضًا إيصال صرخاتهم للرأي العام عبر تعريف المنظمات والمؤسسات الحقوقية والإنسانية بعدالة قضيتهم؛ حيث مدوا جسور التواصل مع وسائل الإعلام العالمية لدعم تلك القضية.

وبينما تسعى السعودية بجهود منفردة من أجل حق العرب الأحواز، يُتهم هذا الدور بالمتاجرة بالقضية من أجل النزاع السعودي الإيراني المشتعل حاليًّا، والذي ينذر بالدخول في آتون حرب.

ففي أكتوبر الماضي، وأمام مجلس الأمن الدولي، قالت السعودية: إن إيران لم تقدم مؤشرات بأن نظامها “يعتزم معالجة الظلم والاضطهاد الذي يعاني منه عرب الأحواز، ومصادرة هويتهم العربية وحقوقهم المدنية”.

وفي سبتمبر، عقد نشطاء أحوازيون ندوة “الاحتلالات الإيرانية في الوطن العربي.. الأحواز نموذجًا”، التي نظمتها في القاهرة حركة النضال العربي لتحرير الأحواز والجمعية الأوروبية الأحوازية لحقوق الإنسان.

وفي مارس 2015، توجه وفد من الأحواز إلى شرم الشيخ المصرية، ووجه رسالة إلى القمة العربية تطرح مطالبهم وتنشد دعمهم، مطالبة بمقعد يمثلهم في الجامعة العربية.

كما عقدت ندوة حول قضية الأحواز في أروقة الأمم المتحدة على هامش اجتماعات الدورة الثلاثين لمجلس حقوق الإنسان، في سبتمبر من العام نفسه، وكانت القضية حاضرة أيضًا خلال المنتدى الثامن للأقليات في الأمم المتحدة في جنيف في نوفمبر.