العدسة – موسى العتيبي

مع أذان ظهر كل يوم، يتوجه العشرات من أبناء حي الشرابية بالقاهرة، إلى مائدة  الطعام الخيرية التي بات يطلق عليها “تكية الغلابة” نظرا لاستقبالها جميع من يفد إليها طوال العام.

المائدة التي أطلقت شرارة بدايتها سيدة “ميسورة الحال” في شهر رمضان الماضي، حيث قررت الإشراف على مائدة طعام رمضانية، ثم اقترحت على “الجمعية الشرعية” التي تقع في منطقتها بعمل مائدة طعام يومية تستمر طوال العام.

الفكرة لاقت قبولا من القائمين على الجمعية الشرعية، ووجدت دعما كبيرا من ميسوري الحال في المنطقة، لتصبح بالفعل “تكية الغلابة” تقدم طعاما يوميا لهم على مدار العام لمدة ثلاث ساعات يوميا، من بعد الظهر وحتى بعد العصر، بإحدى القاعات التي تم استئجارها خصيصا لذلك.

ألف وجبة يوميا

وفقا لبعض رواد “تكية الغلابة” فإن المشروع ينتج نحو ألف وجبة طعام يوميا، تضم لحومًا وخضروات وفاكهة، ويتم إعدادها في مطبخ خاص بجوار القاعة المعدة للإطعام.

المائدة لاترد أحدا، وكل من يقدم عليها تطعمه، بغض النظر عن كونه محتاجًا أم لا، وذلك لاعتقاد القائمين عليها أن من يقدم على أكل وجبة مجانية لاشك أن الحاجة هي من دفعته لذلك، ولايجب أن يرد أحد عن الطعام.

تكية الغلابة

تكية الغلابة

لكن المثير في الأمر، أن الإقبال الكبير على المائدة، يكون أحيانا من أسر بأكملها كانت قبل ذلك ترى من نفسها أنها متوسطة الحال، لكن مع تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وارتفاع الأسعار، وتزايد موجات الغلاء في كل شيء، تهاوت الأسر المتوسطة الحال إلى أسر محدودة الدخل وباتت تشكو الفقر مثلها مثل نحو 30 مليون فقير، وفقا لإحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

أم “محمد” هي سيدة ترتاد تلك المائدة يوميا، تقول إنها كانت بمثابة نجاة لها من الحاجة والعوز، فتكلفة وجبة الغداء التي تتناولها هي وأولادها الثلاثة بـ “تكية الغلابة” قد تصل لنحو 100 جنيه لو قررت إعدادها في منزلها.

وعليه ترى أم محمد أن المشروع جاء رحمة لها وللكثير من أمثالها ممن قست عليهم ظروف الحياة، ونسيتهم الحكومة أو تعامت عنهم، مشيرة إلى أنها تأخذ معها وجبة خامسة لزوجها القعيد في المنزل.

أين دور الحكومة؟

تزايد الفقراء في مصر بصورة غير مسبوقة، وارتفاع حالة الاحتياج والعوَز لدى كثير من المواطنين يدفع الكثير من المراقبين بين الحين والآخر إلى السؤال الهام، أين دور الحكومة من الفقراء في مصر؟.

وللتفصيل يجب أولا الوقوف عند دور الحكومة، فيما يتعلق بالطبقة الفقيرة أو التي يطلق عليها (المعدومة) في مصر، وما تقدمه لهم الحكومة من خدمات تقلل من الأعباء الحياتيه عليهم.

الواقع أن حكومات السيسي المتعاقبة على مدار السنوات الثلاثة الماضية، لم تُعِر “محدودي الدخل” انتباها، بل إنها اتخذت العديد من القرارات التي زادت من معاناتهم بشكل كبير.

فتعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الوقود، وإقرار القيمة المضافة، وزيادة الجمارك، وغيرها من القرارات الحكومية المتعاقبة وضعت “فقراء مصر” في طاحونة الاحتياج، فلم يعد كثير من أرباب الأسر قادرين على توفير الغذاء المناسب أو الملبس أو حتى المسكن الملائم.

قرارات الحكومة جعلت مصر تحتل المركز الرابع من بين 10 دول الأكثر فقرًا في الوطن العربي، وذلك بمتوسط نصيب الفرد السنوي من الدخل القومي 11.432 دولار.

ووفقا لتقرير سابق للتعبئة والإحصاء فإن مصر بات بها 30 مليون مصري تحت خط الفقر، أي أن دخلهم اليومي أقل من دولار ونصف في اليوم.

وإذا ماتم احتساب الدولار والنصف بقيمة الجنيه حاليا في البنوك الرسمية، فإن ذلك يعني أن 30 مليون مصري دخلهم يوميا أقل من 25 جنيه.

وبحسبة بسيطة لهذا الدخل مع متطلبات الحياة اليومية، سيتضح ببساطة لماذا يقبل المصريون على مائدة الطعام الخيرية، فكيلو اللحم وصل سعره لـ 130 جنيه والدجاج تخطى الـ 28 والسمك 35 والخضروات حدث ولا حرج عن ارتفاع أسعارها.

الجمعيات الخيرية في ورطة

المثير في الأمر أن حكومات السيسي لم تتجاهل الفقراء فحسب، لكنها أيضا اتهمت بالسطو على أموال الجمعيات الخيرية التي كانت تسد جانبا اجتماعيا هاما، وتساند دور الحكومة والمنظمات التنموية في دعم الفقراء.

وعلى مدار السنوات الماضية، وتحديدًا بعد الثالث من يوليو 2013، شنت الحكومات المتعاقبة حربا واسعة على الجمعيات الأهلية، بحجة أنها كانت تمول جماعة الإخوان المسلمين، ما أحدث شرخا كبيرا في المجتمع المصري.

وبلغ عدد الجمعيات التي تم إغلاقها نحو 1055 جمعية أهلية، كانت المتنفس الوحيد للعمل الخيري في ربوع الجمهورية، إلى جانب مصادرة أموال لمئات من رجال الأعمال والميسورين الذين كانوا يقومون على رعاية العمل الخيري.

في المقابل عملت الحكومة على توجيه المواطن المصري إلى  “تبرعاته وصدقاته” من خلال صناديق حكومية أنشأتها الدولة “كصندوق تحيا مصر”، وصندوق مستشفى خيري، وصندوق جمعيات خيرية يرأسها رجال أعمال قريبيون من السلطة وهكذا.

وشيئا فشيئا، تحولت الكثير من الجمعيات الخيرية التي تحتكر العمل الخيري في مصر إلى واجهة اجتماعية لرجال الأعمال القريبين من السلطة لغسيل الأموال أو للترويج لهم سياسياً، دون أن يكون لها تأثير فِعْليٌّ على أرض الواقع.

ربما هذه الأسباب دفعت كثيرين ممن يرغبون في أعمال البر والخير في مصر، إلى الإشراف على أعمالهم الخيريه بأنفسهم ودون اللجوء للجمعيات الخيرية، الأمر الذي سيؤدي إلى تلاشي العمل الخيري المؤسسي على المدى البعيد.