العدسة – موسى العتيبي
ما إن استبشر المواطن السوداني خيرا بقرار رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على بلاده في أكتوبر الماضي، حتى فوجئ المواطنين بانخفاض غير مسبوق في العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي.
وسجل الدولار تراجعا محدودا عقب رفع الحظر في أكتوبر الماضي وصل إلى 17 جنيها، قبل أن يقفز مجددا إلى 20 و24 جنيها على التوالي أواخر الشهر الماضي، ليتخطى حاجز 28 جنيهاً، الأسبوع الجاري.
انخفاض الجنيه أمام الدولار، تسبب في حالة من القلق الشعبي، وسط صمت رسمي وتجاهل للتعليق على هذا الأمر، باستثناء تصريحات على استحياء تقول: إن هذا الانخفاض مؤقت وسيعود الجنيه إلى ما كان عليه خلال فترة وجيزة.
فما الذي يحدث بالعملة السودانية؟ وهل من المتوقع أن تقدم الحكومة على تعويم الجنيه بهدف توفير العملة الأجنبية؟ وما هو الرابط بين رفع العقوبات الاقتصادية وانهيار الجنيه السوداني؟.
ارتفاع الطلب على الدولار
وفقا لتجار عملة فإن السودان شهدت ارتفاعا كبيرا لطلب الدولار بعد قرار رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، حيث قرر التجار والمستثمرين استغلال رفع العقوبات وفتح باب الاستيراد على مصراعيه.
وأكد مختصون أن التجار وكبار المستثمرين ورجال الأعمال في الخرطوم، يريدون زيادة وارداتهم بعد قيام الولايات المتحدة برفع العقوبات، والبنوك ليس لديها دولارات، ولذا فإن هناك إقبالا كبيرا على السوق السوداء، والتي بدورها ترفع سعر الدولار أمام الجنيه، بناء على نظرية العرض والطلب.
وتسببت الارتفاعات المتزايدة في سعر صرف الدولار أمام الجنيه في ربكة كبيرة في السوق السودانية، حيث قررت الكثير من الشركات التوقف عن البيع والشراء لحين وضوح الرؤيا بشأن الدولار.
ووفقا لموقع (سودان تربيون) فقد أبلغ مسؤول رفيع بإحدى شركات الخرطوم الكبيرة التي تعمل في المعدات الكهربائية بأن الشركة أوقفت البيع تماماً اعتباراً من الخميس الماضي، خوفاً من التعرض لخسائر.
وقال: ” زيادة الدولار مقابل الجنيه غير مسبوقة، وأصبح يزيد على رأس الساعة”، وتابع: “في العادة الشركة كانت تضع في هامش جنيهين كزيادة في سعر الدولار تحسباً لارتفاع الدولار، لكن وتيرة الزيادات تجاوزت كل ذلك”.
وأشار إلى أن رئيس مجلس إدارة الشركة، عمم على كل فروعها صباح الخميس، قراراً بإيقاف جميع عمليات البيع، وقال: ” جميع منتجات الشركة تستورد من الخارج، ولن تستطيع التحكم في الأسعار مما قد يؤدي لخسائر ضخمة تؤثر على موقف الشركة المالي”.
تكاسل الحكومة وتراخيها
خبراء اقتصاديون عزوا هذا التدهور أيضا إلى تكاسل الحكومة السودانية وتراخيها في التعامل مع سوق الصرف،حيث فشل القطاع الاقتصادي بالسودان في إجادة التعامل مع مرحلة ما بعد العقوبات الأمريكية.
وكان يفترض من حكومة البشير أن تضع خطة لمواجهة زيادة الطلب على النقد الأجنبي بعد رفع الحظر، خصوصا وأن قرار رفع الحظر كان متوقعا منذ عدة أشهر.
ورأي الخبير الاقتصادي محمد الناير في حديثه لبوابة العين الإخبارية أن ما يحدث من تراجع لقيمة الجنيه كان متوقعا ونبه عليه من قبل، وفي تقديره فإن الحكومة تتحمل المسؤولية كاملة إزاء انفلات الدولار نسبة لتجاهلها مسألة تعديل السياسات الاقتصادية لتتماشى مع قرار رفع الحظر الأمريكي.
وأشار الناير إلى أن الحكومة لو كانت عدلت سياسات شراء الذهب ووضعت سياسات تحفيزية لجذب مدخرات المغتربين ورشدت الإنفاق العام، لوفرت 9 مليارات دولار على الأقل، وهي كفيلة بإحداث استقرار سعر صرف الدولار وجعله في حدود 17 جنيها.
وأكد أن الدولار سيشهد مزيدا من الارتفاع حال استمرت الحكومة على السياسات النقدية الحالية، مشيراً إلى أن الحل الدائم للقضية يكمن في زيادة اﻹنتاج والإنتاجية.
“بكري حسن صالح” رئيس الوزراء السوداني
اتجاه لتعويم الجنيه
من جهة أخرى تسربت معلومات – يعززها ما يجري في البلاد حاليا من هبوط متسارع لقيمة الجنيه- باتجاه قوي داخل المؤسسات الاقتصادية الرسمية لتعويم الجنيه في الموازنة المقبلة للدولة كواحد من الحلول للسيطرة على انفلات الدولار، كما يقول اقتصاديون.
وبرغم نفي وزير المالية السوداني الفريق محمد عثمان الركابي، أن تكون حكومة السودان قد قررت تعويم سعر الصرف، إلا أن مراقبين أكدوا أن تصرفات الحكومة تجاه أزمة الدولار توحي بعكس ذلك.
وأعلن وزير المالية السوداني الأسبوع الماضي، عن حزمة إجراءات اقتصادية -لم يفصح عنها- بغرض إحداث استقرار في سعر الصرف على المدى القريب، لكن تلك الحزمة من الإجراءات لم يتم الكشف عنها حتى الآن، وهو الأمر الذي فتح بابا من التكهنات بنية القطاع الاقتصادي في الدولة إلى تعويم الجنيه كواحد من الحلول الآنية لمعالجة التدهور.
وزير المالية السوداني
فيما كشف بنك السودان المركزي عن صدور سياسات جديدة قبل نهاية العام الحالي لإيقاف المضاربات في سعر الصرف، في وقت دعا فيه لزيادة الصادرات السودانية بتقديم منتجات تسويقية ذات جودة عالية تنافس في الأسواق العالمية.
ووعد حازم عبد القادر “محافظ البنك المركزي” في تصريحات أن الفترة القادمة ستشهد تحسنا في الأداء المالي والمصرفي وخفض التضخم، إلى جانب عدد من الإصلاحات والسياسات الجديدة التي ستنعكس نتائجها الإيجابية مستقبلاً”.
تصريحات “محافظ البنك المركزي” التي لم توضح تفصيلا لما ستقدم عليه الحكومة السودانية، عزز الشكوك لدى مراقبين بأن الخرطوم تتجه إلى تعويم عملتها أمام العملات الأجنبية، بهدف فتح السودان كسوق استثماري كبير أمام المستثمرين بعد قرار رفع العقوبات الاقتصادية عنها.
أيضا فإن تصريحات صحفية لـ”الأمين حسين آدم – نائب رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان السوداني” عززت من احتمالية إقدام الحكومة على تعويم الجنيه، حيث لم ينف فكرة التعويم مطلقا، لكنه فقط استبعد وقوعها في الوقت الحالي، الأمر الذي يشير إلى وجود نقاشات جادة داخل البرلمان بتعويم الجنيه.
محافظ البنك المركزي السوداني
اقتصاد متدهور
التدهور الكبير في الاقتصاد السوداني، هو أيضا أحد أبرز أسباب انهيار الجنيه أمام الدولار، فعلى أقل التقديرات فإن الاقتصاد السوداني يفقد سنويا جراء العقوبات ما يقارب 18 مليار دولار من الصناديق المانحة، والتي يبلغ عددها 16 صندوقا ومنظمة، كما فاقمت أزمة انفصال الجنوب عام 2011 من وضعه، حيث أصبحت الخرطوم مستوردا للمشتقات النفطية بعد سيطرة الجنوب على نحو 75% من حقول النفط، والتي تُمثل نحو 50% من الإيرادات العامة للبلاد.
كما ارتفع حجم الدين الخارجي للسودان طيلة سنوات العقوبات الاقتصادية عليها، ليصل إلى ما يقرب من 47 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، وفق تقرير لصندوق النقد الدولي، وهي تمثل نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك جراء ارتفاع أرباح الديون بشكل مطرد.
وأدت العقوبات إلى عرقلة إعفاء البلاد من الديون الخارجية – ضمن مبادرة “الهيبك” لإعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون- وارتفع تصنيف المخاطر السودانية من قبل المؤسسات المالية الدولية، مما حد من قدرتها على الحصول على تسهيلات وتمويلات.
وبحسب “الجزيرة نت” فقد تأثر القطاع المصرفي كثيرا بالعقوبات، وخرج عمليا من المنظومة المالية العالمية، حيث توقفت التحويلات المالية بالدولار، وامتنع الكثير من البنوك الأجنبية الأوروبية عن التعامل مع المصارف السودانية، وكذلك الشركات الأجنبية، خاصة في مجال البترول والاتصالات، وهو ما عطل الاستثمار الخارجي، وقلص إلى حد كبير مصادر العملات الصعبة.
وتضرر قطاع النقل بشكل كبير، جراء النقص الحاد في قطع الغيار، كما فقد قطاع السكك الحديدية 83% من بنيته التحتية، وتأثرت مئات المصانع بالعقوبات بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو المعدات والبرمجيات الحديثة.
ويشكل القطاع الزراعي أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد شهد تدهورا كبيرا جراء القيود على الصادرات، ونقص قطع الغيار والمعدات والتقنيات الحديثة التي تساعد في رفع الإنتاج وخفض التكلفة، وتراجعت فرص التمويل والاستثمار الخارجي، كما مر القطاع الصناعي -الذي يمثل نسبة 26% من الناتج المحلي الإجمالي- بالظروف نفسها، وتدهورت أوضاعه.
وضغطت العقوبات أيضا على القطاع الصحي جراء نقص الأجهزة الطبية والأدوية والمستحضرات، التي يمنع استيراد بعضها، وهو ما كان له تأثير بالغ في تردي الخدمات الصحية، بما أثر بشكل واضح على أوضاع المواطنين.
كل تلك الضغوطات على اقتصاد السودان كانت كفيله بانهيار الجنيه أمام الدولار بشكل كبير، سواء أتم رفع العقوبات أم لا، وهو الأمر الذي يفترض أن تتعامل معه حكومة الخرطوم بذكاء اقتصادي شديد.
اضف تعليقا