فرناندو كاردوزو هو ذلك الرجل البرازيلي المتهم بالخيانة من قبل بعض زملائه وأعوانه في السبعينات، فقد رأى زملائه في بعض أفكاره وكتاباته خروجا عن النقاء الديمقراطي الذي ساد المعارضة الرافضة للحكم العسكري منذ انقلاب ١٩٦٤. عبرت كتابات عديدة لكاردوزو في بدايات السبعينات عن ضرورة التواصل مع المعارضة التي تعمل تحت سقف النظام بشكل معترف به ومرخص له، كان هذا الأمر صادما وشديد الوطأة على رافضي كل من يعترف بشرعية النظام، وتزداد دهشتهم كون كاردوزو رجل علم وفكر فهو أستاذ في علم الاجتماع، وممن أسس المركز البرازيلي للتحليل والتخطيط، وكان في المنفى حتى عام ١٩٦٨.
فجأة استجاب أوليسيس غيماريش بعد انتخابه عام ١٩٧٤ رئيسا للحركة الديمقراطية البرازيلية –التي لها الرخصة الوحيدة كحزب شرعي معارض- لدعوات كاردوزو، وزاره في مكتبه وأصبحا معا فريق عمل بتفكير عملي مختلف، فلم يعتمدا على تكرار الكلام عن القمع والعنف والحريات والديمقراطية فقط، ولكن وضعا إطارا عاما لبرامج مستقبلية، ووسّعوا الاهتمام بقضايا أكثر ارتباطا بالمجتمع، مثل قضية السكان الأصليين والسود والمرأة، والأهم أنهما تجاوبا عمليا بشكل واضح مع الضغوط الاجتماعية الشديدة -التي فهموها جيدا- وامتلكوا تصورات وسياسات ووضعوا برنامجا واضحا ديمقراطيا اجتماعيا.
سعى كاردوزو لبناء تحالفات مختلفة ومتعددة، يمكنها أن تحقق استراتيجيات ضغط فعّالة، وتستغل هامش الحركة داخل البرازيل، ساعد على ذلك أن النظام العسكري القمعي في ذروة قمعه واستبداده كان يهتم بستار الشرعية، وإجراء الانتخابات حتى لو وفق قواعد ظالمة، وكان أقل قمعا من حالات أخرى كأوروجواي وشيلي -وبالتأكيد أقل كثيرا من الحالة المصرية الحالية-، فلم يحرم من الحقوق السياسية إلا ٥٠٠ سياسي فقط، ومن تم حصر مسئولية الحكومة عن قتلهم ٣٣٣ حالة فقط، كما كانت هناك حركات متعددة فاعلة في المجتمع المدني مثل حركة “مزارعون بلا أرض” التي قامت باحتلال أراض زراعية مطالبة بإعادة توزيعها.
بعد نضال طويل واستراتيجيات عملية فعّالة -توافرت لها عوامل نجاح أخرى داخلية وخارجية-، وقيادات قادرة على التعامل الأنسب مع المشهد، نجح الانتقال من الحكم العسكري لحكم مدني وبالانتخاب الحر المباشر، وكان من لُقب سابقا بالخائن – فرناندو كاردوزو- هو المقرر العام للجمعية التأسيسية للدستور عام ١٩٨٨، وانتخب رئيسا للبرازيل عام ١٩٩٤، وأعيد انتخابه عام ١٩٩٨، وانتقلت السلطة سلميا بعده إلى لولا دي سلفا.
ما أريد قوله -برغم اختلاف التفاصيل عن الحالة المصرية- هو الحاجة الماسة إلى العقول التي تفكر عمليا ولا تكرر نفس الكلام بلا استراتيجية فعّالة، ولا قدرات علمية ولا عملية، ففي الوقت الذي كان زملاء كاردوزو يصفونه بالخيانة، كان يفكر في وصف استراتيجيته: “أنه لن يتسنى لنا كسر هيمنة العسكر ما لم يقم تحالف بين مختلف القطاعات، … ولن تتم عملية الانتقال دون مواجهة مباشرة، … والنظام عبارة عن حصن، وعلينا أن نحاصره، فإذا فرضنا حصارا خانقا فسيجوع من هم بالداخل ويسعون إلينا لتخليصهم من الحصار، … عندها ستحدث عملية الانتقال نتيجة لتجمع قوى منشقة عن الحكومة للانضمام للمعارضة فالانتقال ليس حصيلة جهود المعارضة فقط”[1]، والأهم من هذا الوصف أنه كان قادرا مع آخرين على تحقيقها وتطويرها.
يبدو أننا بحاجة لإعادة النظر في النخب والعقول التي تحمل راية التغيير بأكثر من استمرار الشكوى من النظام القمعي، فنحن في أمس الحاجة لعقول أكثر وعيا وقدرة على الفعل والتأثير من الثرثرة على الكلام المكرر والمستهلك.[2]
[1] شهادة فرناندو كاردوزو، كتاب تجارب التحول إلى الديمقراطية حوارات مع القادة السياسيين، القاهرة دار الشروق ٢٠١٦.
[2] للاطلاع على تفاصيل التجربة البرازيلية وتجارب ٧ دول أخرى يمكن العودة للمرجع السابق.
اضف تعليقا