كتبه – منذر العلي
لطالما ارتبط اسم فرنسا في أذهان العرب وشعوب أخرى حول العالم بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمساواة، وغيرها من الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية وأصبحت فيما بعد جزءًا أصيلًا من شخصية الدولة وقيمها وحضارتها بل وسياستها على اختلاف من يحكمها.
لكن يبدو أن “إيمانويل ماكرون” الرئيس الذي لم يمض على فترة ولايته 6 أشهر، قرر أن يحطم تلك “الأسطورة” ويغير المفاهيم المترسخة في العالم عن بلاده.
تصريحات الرئيس الفرنسي ومواقفه – خاصة تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط – تكشف عن أن “ماكرون” ذهب بالسياسة الخارجية لفرنسا في اتجاه “البراجماتية” لتصبح معبرة عن مصالح باريس لا قيمها ومبادئها.
ماكرون
وعندما نتحدث عن السياسة الخارجية لفرنسا، فإن منظومة الحكم في البلاد تجعلها بجانب السياسة الدفاعية ضمن صلاحيات شبه مطلقة بيد الرئيس، وذلك منذ أسس “شارل ديجول” الجمهورية الخامسة.
ماكرون.. بين ترامب وبوتين
في يوليو الماضي، وبعد شهرين فقط من توليه منصب الرئاسة، استقبل ماكرون نظيره الأمريكي دونالد ترامب في احتفالات انتصار الثورة الفرنسية “يوم الباستيل”، وقال ماكرون مرحبًا بضيفه: “إن حضور دونالد ترامب مؤشر إلى صداقة تعود إلى مائة سنة وتتجاوز الزمن وما من شيء سيفرق بيننا”.
وغض الرئيس الفرنسي الطرف عن إعلان ترامب قبلها بنحو شهر ونصف الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، لكن تحليل موقف “ماكرون” هذا يتناغم مع ما أوردته مجلة “فورين بوليسي” من قبول “ترامب” لفكرة قوات دولية تحارب الإرهاب في الساحل الإفريقي بإشراف وتمويل الأمم المتحدة، مما قد يخفف الضغط السياسي والمالي والعسكري على فرنسا إثر عملياتها العسكرية هناك.
ماكرون و ترامب
اللافت أن هذا الخطاب الجديد لماكرون يتناقض مع خطابه تجاه “ترامب” أثناء حملة الأخير الانتخابية؛ حيث قال حينها: إن فرنسا تحتاج إلى علاقات قوية وتعاون وثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن انتخاب “ترامب” يعتبر مصدر قلق للفرنسيين، ويُخلّ بالتوازنات الدولية لصالح الصين.
لم يختلف الأمر كثيرًا حينما تعلق الأمر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ حيث اعتبر “ماكرون” روسيا شريكا أساسيا في مكافحة الإرهاب، متناقضًا مع تصريحاته أثناء حملته الانتخابية التي رأى فيها أن روسيا بوتين “تنتهج سياسة خارجية خطيرة، ولا تتوانى عن انتهاك القانون الدولي”.
الخلاصة أن تعامل “ماكرون” مع رئيس أكبر دولتين في العالم يكشف درجة كبيرة من التناقض الذي يعكس شخصية “براجماتية” باحثة عن المصالح والمصالح فقط، بغض النظر عن المبادئ والقيم التي تدافع عنها فرنسا، ومدى التزام هاتين الدولتين في ممارساتهما بتلك القناعات.
أزمة الحريري.. وإنقاذ الرياض
على صعيد أزمات وقضايا المنطقة، لم يكن الأمر أفضل حالًا فيما يخص التوجهات الجديدة لفرنسا البراجماتية، ومثلت أزمة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، أوضح تجليات هذه السياسة الجديدة.
ولعل استقبال ماكرون الحريري السبت الماضي، كان بمثابة حبل الإنقاذ الذي انتشلت به فرنسا السعودية من أمواج أزمة متلاطمة، وضعت الرياض في مأزق كبير راجت فيه الاتهامات التي لاحقتها باحتجاز الحريري وعائلته وإجباره على تلاوة بيان الاستقالة منها.
ماكرون و الحريري
وخلال الأزمة التي استمرت لأسبوعين – ولم تنته بعد – أوفدت فرنسا وزير خارجيتها “جان إيف لودريان” للقاء الحريري في الرياض، ليصرح الرجل بأن رئيس الوزراء اللبناني المستقيل “حر في تنقلاته”، متبرعًا بالدفاع عن المملكة ونفي الاتهامات الموجهة إليها.
لغة المصالح التي تتبناها فرنسا ماكرون، تتضح بشدة في هذه المعادلة، فبالتزامن مع تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، أعلن قصر الإليزيه أن “ماكرون” طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال اجتماعهما في الرياض، مساعدة مالية للقوة العسكرية المشتركة بين الدول الخمس في منطقة الساحل الإفريقي.
ماكرون وبن سلمان
وقالت الرئاسة الفرنسية: “هناك استعداد من جانب السلطات السعودية لدعم قوة الدول الخمس في الساحل، في إطار اجتماع الدعم المقرر في بروكسل في 14 ديسمبر”، وتشير التقديرات إلى أن القوة ما زالت بحاجة لتمويل قدره 100 مليون دولار.
الأمر ظهر وكأن باريس تتاجر بمواقفها وتتقاضى مقابلها الأموال، ويُفهم في هذا السياق أن الـ100 مليون دولار ثمنٌ تسدده الرياض لباريس مقابل موقفها الداعم لها في أزمة الحريري.
ملعب الخلافات السعودية الإيرانية كان ساحة أخرى تاجرت فيها فرنسا بمواقفها تماهيًا مع الرياض، حين عبر وزير خارجية فرنسا الخميس الماضي، عن قلق بلاده من دور إيران في أزمات الشرق الأوسط، ومن برنامجها للصواريخ الباليستية المثير للجدل.
وقال خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره السعودي عادل الجبير في الرياض: “دور إيران والمناطق المختلفة التي يعمل فيها هذا البلد يثير قلقنا”.
وزيرا الخارجية السعودي والفرنسي
على النقيض كان الموقف الألماني من الأزمة، حيث انتقد وزير خارجيتها “زيجمار جابرييل” علنًا تعامل السعودية مع الحريري، وقال في مؤتمر مع نظيره اللبناني “جبران باسيل” في برلين، في إشارة إلى القيادة السعودية: “إن هناك إشارة مشتركة من جانب أوروبا، بأن روح المغامرة التي تتسع هناك منذ عدة أشهر لن تكون مقبولة ولن نسكت عنها”.
وعلى الفور اندلعت أزمة دبلوماسية بين البلدين، استدعت الرياض على إثرها سفير المملكة في برلين للتشاور، ووصفت تصريحات “جابرييل” بالمشينة وغير المبررة، معتبرة أن مثل هذه التصريحات “العشوائية والمبنية على معلومات مغلوطة” لا تدعم الاستقرار في المنطقة.
الأسد وحفتر شاهدان
في يوليو الماضي، نشرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية بيانًا أصدره مثقفون وكتاب ومفكرون فرنسيون وسوريون، ينتقدون فيه تحول سياسة “ماكرون” تجاه رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعد تصريحه لصحيفة “لوفيجارو” أنه “لا يرى خلفًا مشروعًا لبشار الأسد” الذي يعتبره “عدوا للشعب السوري وليس عدوا لفرنسا”، بعدما كانت باريس لفترة طويلة في مقدمة المطالبين برحيل الأسد.
وفي التصريح ذاته، تعهد الرئيس الفرنسي بأنه في حال استعمال الأسلحة الكيميائية مع معرفة مصدرها؛ فإن فرنسا ستقوم بضربات لتدمير خزائن هذه الأسلحة.
لكن لم يصدر عن فرنسا أي رد فعل بعد أن أثبت تقرير البعثة الخاصة بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بسوريا، أن النظام السوري استعمل غاز “السارين” في قصفه لخان شيخون في أبريل 2017، ما أدى إلى مقتل 87 شخصا بينهم 31 طفلا.
ولم يكن بشار هو الوحيد الذي استفاد من السياسة الجديدة لماكرون؛ فالجنرال الليبي خليفة حفتر كان أحد المستفيدين كذلك، حيث يعتبر “ماكرون” الزعيم الغربي الوحيد الذي استضاف حفتر بشكل رسمي، مانحًا إياه الشرعية الدبلوماسية والسياسية.
ماكرون وحفتر
يأتي هذا على الرغم من الاتهامات التي تلاحق “حفتر” بإيواء “محمود الورفلي” أحد قادة قواته الميدانيين، والذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه، بتهمة القتل خارج نطاق القانون.
“ماكرون” اعتبر أن التدخل في ليبيا والعراق هو السبب الرئيسي لانهيار الدولة، وبالتالي ظهور التنظيمات الإرهابية، وعليه فإن تدخل فرنسا لإسقاط معمر القذافي كان خطأً، والحل في سوريا هو استبعاد أي تدخل لإسقاط الأسد.
وبهذا يحطم “ماكرون” أحد ركائز الثورة الفرنسية القائمة على مبدأ سيادة الشعوب، حيث ألغى الرئيس الفرنسي، ليس سيادة شعوب دول الربيع العربي، لكن حصرها بين خيارين فقط، إما القبول باستبداد الأنظمة الحاكمة، أو تفشي العنف والإرهاب.
دروس للسيسي
مصر لم تكن مستثناة من تلك القاعدة الفرنسية الجديدة التي يرسيها “ماكرون”، وبدا أن لغة المصالح كانت الغالبة على اللقاء الذي جمعه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في باريس أكتوبر الماضي.
حيث ركزت تصريحات ماكرون على نقطتين جوهريتين، أولاهما مسألة حقوق الإنسان في مصر، حيث قال خلال المؤتمر الصحفي المشترك، إنه ليس “من الوارد إعطاء دروس” لأي دولة في مسألة حقوق الإنسان.
وأضاف “ماكرون”: “أنا مدرك للظروف الأمنية التي يتحرك فيها الرئيس السيسي، لديه تحدي استقرار بلاده، ومكافحة التطرف الديني.. أؤمن بسيادة الدول ولا أعطي دروسًا للآخرين كما لا أحب أن يعطي أحد بلادي دروسًا”.
ماكرون و السيسي
من هنا تبدو المسألة الثانية، وهي قضية مكافحة الإرهاب، الذي قرن خلاله “ماكرون” – للمرة الثانية فقط منذ توليه الرئاسة في مايو الماضي- الإسلام بالإرهاب.
السيسي لم يكن أقل وضوحًا في الإفصاح عن الغرض الحقيقي وراء التقارب المصري الفرنسي، حين قال خلال استقبال “هيرفي جيلو”، الرئيس التنفيذى لشركة “نافال” الفرنسية للصناعات العسكرية البحرية: إن البحرية المصرية باتت ثاني أكبر مستخدم للقطع العسكرية التى تنتجها الشركة بعد البحرية الفرنسية.
اتضحت ملامح الصورة كثيرًا إذن، واكتملت المعادلة إلى حد كبير، فبينما تتغاضى فرنسا عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، تسدد القاهرة فاتورة باهظة لاستيراد السلاح من باريس، وتبقى قضية مكافحة الإرهاب “الإسلامي” قاسمًا مشتركًا بينهما.
اضف تعليقا