العدسة – منذر العلي
جذور تاريخية وجغرافية وثقافية وعائلية ممتدة تربط بين مصر والسودان، لكن يبدو أن الأزمات والخلافات تهدد بنسف تلك الجذور، على الأقل على مستوى الأنظمة الحاكمة، قبل شعبي البلدين.
ورغم أن أزمة النزاع على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي خفت وهجها قليلًا، إلا أن “كارثة” سد النهضة الإثيوبي أحيت القضية من جديد، ليبدو الأمر وكأنه تخليص للملفات على غرار “واحدة بواحدة”.
فبينما تشكو الخرطوم تجاهل القاهرة لمطالبها بشأن المنطقة الحدودية وإصرار الأخيرة على تبعيتها لها، يعوض السودان تلك الخسارة أو الهزيمة في ميدان آخر يوجع مصر بشدة وهو ملف سد النهضة.
مياهنا عادت إلينا!
وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، قال إن مصلحة بلاده في سد النهضة تتمثل في أنه “يحافظ على حصة مياه السودان التي كانت تذهب إلى مصر”.
وفي حوار مع تليفزيون “روسيا اليوم”، من العاصمة السودانية الخرطوم الاثنين 20 نوفمبر الجاري، أوضح غندور أن سد النهضة الإثيوبي من شأنه إعادة حصة السودان من المياه إليه، والتي كانت مصر تحصل عليها من قبيل “السلفة”.
وتابع: “مشكلة السودان كانت ولازالت في أنه لم يستخدم نصيبه من مياه النيل التي منحتها لها اتفاقية 1959، والتي كانت تذهب لمصر طوال السنوات الماضية”.
وربما تكون تلك المرة الأولى التي يفصح فيها مسؤول سوداني عما قال إنه اتفاق ثنائي بين البلدين، فقال “غندور”: “هناك اتفاق بين السودان ومصر على أن هذا النصيب هو دين بحسب اتفاقية 1959، الآن ربما يتوقف الدائن عن إعطاء هذا الدين، وواضح أن المدين يريد لهذا العطاء أن يتوقف”.
وكأنه يغيظ القاهرة كالذي يخرج لسانه، تابع: “مصر ستخسر مياه السودان التي كانت تذهب إليها؛ بفضل السد”، مشيرًا إلى أن بلاده قدمت لمصر أكثر من مرة مقترحًا بإقامة مشاريع مشتركة لزراعة القمح شمال السودان ولكنها لم تستجب.
اللافت أن تلك التصريحات تأتي وكأنها الرد على تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل يومين، حين قال إنه لا أحد يستطيع أن يمس حصة مياه مصر، مشددًا على أنها مسألة “حياة أو موت”.
وكانت مصر أعلنت، الاثنين الماضي، تجميد المفاوضات الفنية مع السودان وإثيوبيا عقب اجتماع ثلاثي في القاهرة، إثر رفض المسؤولين المصريين تعديلات البلدين على دراسات السد وملئه وتشغيله.
وتتخوف مصر من تأثيرات سلبية محتملة للسد الإثيوبي على حصتها المائية التي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب، فيما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب.
“إبراهيم غندور” وزير الخارجية السوداني
مصالح لا تنقصها المكايدة
وعلى الرغم من الفوائد التي يجنيها السودان من سد النهضة، إلا أن تقارير سودانية، فسرت موقف الخرطوم تجاه السد أنه مجرد “مكايدة سياسية” موجهة ضد القاهرة، بسبب النزاع على مثلث حلايب الحدودي.
لكن ثمة تقارير أخرى تحدثت بالتفصيل عن مصلحة السودان المباشرة من وراء السد، حيث ينتظر أن يخزن سد النهضة الإثيوبي الطمي الذي يعيق عمل السدود السودانية على النيل، ويحول نهر عطبرة من كونه نهرًا موسميًّا يبدأ في الخريف ويجف في الصيف إلى نهر دائم، وبهذا تزداد كمية الكهرباء المولدة في السدود السودانية على نهر “عطبرة” من 120 ميجاوات إلى 320 ميجاوات، بالإضافة إلى أن إثيوبيا أعلنت استعدادها منح السودان 500 ميجاوات من كهرباء سد النهضة.
سد “النهضة”
السياسة كانت حاضرة أيضًا في الموقف، وفق التحليل السابق، الذي رأى أن “السودان ظل معاديًا للدول الإفريقية من أجل مصالح مصر المائية، بينما مصر لا تعتبر المصالح السودانية أبدًا بل تفتح القاهرة ذراعيها كمكان لتجميع وإيواء المعارضة السودانية والحركات المسلحة”.
وبحسب التقرير، “توافق مصر على أن يقوم حليفها الليبي خليفة حفتر بتمويل ودعم حركات دارفور المسلحة، وترفض مصر التفاوض على مثلث حلايب، ناهيك عن رفض تنفيذها اتفاقية الحريات الأربع بين البلدين، والموقعة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك”.
سيب وأنا اسيب
وفق المعطيات السابقة، فإن أزمتي سد النهضة وحلايب أصبحتا متلازمتين على نحو يصعب معه حل واحدة دون الأخرى، إلى الحد الذي يشبه موقف البلدين بمقولة “سيب وانا اسيب”.
المطلوب إذن منهما أن يقدم كل طرف تنازلًا من جانبه في القضية التي يملك نقاط قوة بها، فالسودان يمكنه الميل قليلًا في أزمة سد النهضة تجاه الموقف المصري لا الإثيوبي، وبالتالي يعزز جبهة القاهرة بشكل قد يرغم أديس أبابا على التراجع إلى الوراء، فيما يتعلق بشروط ملء خزانات السد وبدء التشغيل.
في المقابل، فإن مصر تملك زمام المبادرة، ويمكنها اللجوء إلى أحد خيارين في أزمة حلايب، أولهما: التفاوض المباشر بين الطرفين، بحيث يقدم كل طرف الحجج والأسانيد التي تدعم موقفه، وتتواصل اللقاءات الثنائية حتى يتم الاتفاق على وضع ما يرضي الطرفين.
وفي هذا السياق، تبرز تصريحات أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم الدكتور الطيب زين العابدين، الذي كشف أن السودان عرض على الحكومة المصرية في عهد مبارك إقامة منطقة تكامل بين البلدين في حلايب، أو التوصل إلى تسوية سياسية تؤدي إلى اقتسام الأرض، لكن مصر رفضت.
أما الخيار الثاني الذي يمكن أن تبدأ به مصر حلحلة الأمور، يعرضه السودان دومًا وهو اللجوء للتحكيم الدولي، الذي يقتضي موافقة طرفي التحكيم عليه، وهو ما ترفضه القاهرة على الدوام.
بعيدًا عن هذا وذاك، وهو السيناريو المستقبلي المرجح على المدى المنظور، تبقى الأوضاع على ما هي عليه، فالسودان يتمسك بإقامة السد وفق توجهات إثيوبيا، ومصر لن تتفاوض على تبعية حلايب أو تقبل التحكيم فيها.
اضف تعليقا