العدسة -مؤيد كنعان
هل قررت السعودية بالفعل بناء كنيسة جديدة وترميم أخرى؟ لم يكد الجدل الذي اشتعل في منتصف نوفمبر الجاري يخبو حتى تجدد، بعد أن نقلت وسائل إعلام تصريحات عن وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، أكد فيها أن معلومات وصلته تشير إلى أن الرياض بالفعل تسعى لتشييد كنيسة جديدة داخل المملكة، وترميم أخرى، ويبدو من سياق حديثه أن الترميم سيكون لأغراض غير سياحية.
في 15 نوفمبر، وبالتزامن مع زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى الرياض، ولقائه كلا من العاهل السعودي الملك سلمان، ونجله ولي العهد محمد، أثير موضوع الكنائس، حيث تداول العديد من وسائل الإعلام العربية ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية، خبرا عن عزم السعودية ترميم كنيسة أثرية جرى اكتشافها، ويعود تاريخها لنحو 900 عام.
واحتل الوسم “#افتتاح_كنيسة_في_الرياض“، مكانة متقدمة في ترند، موقع “تويتر” بالسعودية، وتصاعد الحديث عن الكنيسة كما لو أنها باتت واقعاً، وتصدّر النقاش حولها قائمة القضايا الأكثر تداولاً في تويتر وفيسبوك بالسعودية ودول خليجية وعربية أخرى، إلا أن الرياض لم تؤكد أو تنف هذه الأخبار.
انفتاح بن سلمان
ورغم انتهاء زيارة الراعي وعودته إلى بيروت، إلا أن الرياض لم تصدر أي شيء رسمي بهذا الصدد، ليكشف عنها المسؤول اللبناني وليد جنبلاط، ويعيدها إلى الواجهة مجددا، ليتجدد السؤال: هل يمضي “بن سلمان” إلى أبعد من الأُطُر المتوقعة أو المتصورة لتقديم نفسه إلى العالم كحاكم لا يؤمن بالتابوهات، ولا يسلم بما يعتبرها الكثيرون ثوابت؟ الإجابة، وفقا لعلمانية الأمير الشاب العلنية والعنيفة في طبيعة تطبيقها، وعدوانيته الواضحة حيال مراكز القوى السياسية والدينية المحسوبة على العهود السابقة بالمملكة.
وبين إثارة الأمر في منتصف نوفمبر، وتصريحات “جنبلاط” حدثت واقعة اليهودي الإسرائيلي، الذي دخل إلى الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، والتقط صورا من هناك، مظهرا حروفا عبرية منقوشة على ملابسه، لم يخل الأمر من دلالة، واعتبرها كثيرون رسالة متعمدة “شديدة الانفتاح” من “بن سلمان” إلى الجميع، بما فيهم دولة الاحتلال الإسرائيلي.
باختصار لقد تحدث “بن سلمان” عن عزمه العودة بالمملكة إلى ما قبل عام 1979، لكن قبل هذا العام أيضا لم يكن هناك بالمملكة كنائس للعبادة.
المسيحيون في السعودية
ومن المعروف أن المجتمع المسيحي في السعودية ودول الخليج يتميز بخصيصتين؛ الأولى أنه مجتمع حديث، والثانية أنه بالكامل، تقريبا، من الأجانب.
وفي 2010، ذكرت وكالة رويترز، في تقرير لها، أن عدد المسيحيين يبلغ نحو 3.5 مليون وافد إلى دول “مجلس التعاون الخليجي”، الذي بلغ عدد سكانه عام 2015 نحو 50.4 مليون نسمة، وتحوي السعودية أكبر تجمُّع مسيحي في دول المجلس، إلا أنه يصعب تحديد التركيبة السكانية من الناحية الدينية بدقة في المملكة العربية السعودية، فجميع المواطنين مسلمون من قبل الدولة، ويُعتقد أن هناك 1.5 مليون مسيحي على الأقل يعيش في البلاد، وتذكر مصادر أخرى أن العدد يصل إلى مليونين؛ فيما يبلغ عدد الوافدين من الديانات المختلفة نحو 30% من عدد السكان.
ويتشكل المجتمع المسيحي في المملكة العربية السعودية من أكثر من مليون من الروم الكاثوليك، معظمهم من الفلبينيين المغتربين الذين تسمح لهم البلد بالعمل فيها، لكنها لا تمنحهم الجنسية العربية السعودية، حيث يوجد نحو 1.2 مليون فلبيني في المملكة العربية السعودية، يشكل المسيحيون منهم حوالي 60% من بين جميع الطوائف، وفقًا لتقرير الحرية الدينية العالمي لعام 2008.
وتسمح السعودية للمسيحيين بدخول البلاد بصفتهم عمالًا أجانب لعمل مؤقت، لكنها لا تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية علنًا، فلا توجد كنائس رسمية في السعودية، وبالرغم من وجود كنيسة أثرية في منطقة “الجبيل”، إلا أن الحكومة تمنع المواطنين والأجانب من زيارتها، علاوة على ذلك، لا تسمح الحكومة ببناء الكنائس، أو دخول رجال الدين من غير المسلمين إلى البلاد، بغرض القيام بالمراسم الدينية.
ففي 9 يوليو 2006، اعتقلت الشرطة اثنين من الإثيوبيين واثنين من قادة الكنيسة الإريتريين في مكان خاص لممارسة العبادة المسيحية في مدينة جدة؛ ليتم ترحيلهم في يوليو من ذات العام.
حظر ديني
وتحظر الدولة المنشورات الدينية، وأية أشياء أخرى تخص أية ديانة غير الإسلام، مثل: “الأناجيل، والصلبان، والتماثيل، والمنحوتات”، أو أشياء تعتبر رموزًا دينية مثل “نجمة داوود”، أو غيرها، لذا يمارس المسيحيون شعائر عبادتهم داخل منازلهم، أو عن طريق الإنترنت، وغرف المحادثة أو الاجتماعات الخاصة، ويحظر على المسيحيين وغيرهم من غير المسلمين دخول مدينتي “مكة المكرمة، والمدينة المنورة”، واللتين تعتبران أقدس المدن في الإسلام.
وينقل علماء الحديث روايتين عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يمنعان تواجد غير المسلمين في منطقة الجزيرة العربية، علاوة على السماح لهم بالتعبد، فعن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “لا يجتمع دينان في جزيرة العرب“، لكن العلماء اختلفوا في تفسير لفظة “جزيرة العرب”، فقال بعضهم: إن المقصود بها، في هذا الحديث، هي مناطق مكة والمدينة واليمامة.
الحديث الثاني هو ما رواه البخاري (3168) ومسلم (1637) عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، حينما قال: “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب”، وفي تفسير ذلك الحديث قال رجل الدين السعودي البارز الشيخ “بن باز”: “يجب أن يعلم أنه لا يجوز استقدام الكفرة إلى هذه الجزيرة، لا من النصارى، ولا من غير النصارى، وهي المملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج، كل هذه الدول داخلة في الجزيرة العربية، فالواجب ألا يقر فيها الكفرة من اليهود، والنصارى، والبوذيين، والشيوعيين، والوثنيين، وجميع من يحكم الإسلام بأنه كافر لا يجوز بقاؤه ولا إقراره في هذه الجزيرة، ولا استقدامه إليها، إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر، كالضرورة لأمر عارض ثم يرجع إلى بلده، ممن تدعو الضرورة إلى مجيئه أو الحاجة الشديدة إلى هذه المملكة وشبهها كاليمن ودول الخليج”.
لكن، وبشكل عام، إذا قرر “بن سلمان” بناء الكنائس للتعبد واستقدام غير المسلمين بغرض الإقامة الدائمة، فإنه سيجد من يسوغ له الأمر بمخارج فقهية تستند إلى تحقيق المصالح، كما حدث في قرار السماح للمرأة بقيادة السيارات، حيث تسابق رجال دين- كانوا قد حرموا الأمر- إلى تحليله بداعي المصلحة التي بدت لولي الأمر.
بناء الكنائس
واقعيا، ووفقا لطريقة ولي العهد، الذي يعد نفسه حاكما مسقبليا طويل الأمد للمملكة، هناك عدة أسباب، منها:
1- مغازلة واشنطن والدول الأوروبية، لا سيما بعد تصعيد حملة أمريكية وأوروبية للضغط على السعودية، باعتبارها مرجعية للتنظيمات “الراديكالية” التي تهاجم تلك الدول، ووصلت الأمور ذروتها حينما تبنت واشنطن بشكل غير رسمي توجها يسمح بتحميل الرياض مسؤولية هجمات 11 سبتمبر 2001، حينها دق ناقوس خطر في المملكة، قد يكون من أقوى الأسباب التي دفعت “بن سلمان” إلى محاولة خلع الإرث الوهابي القديم وإشعال النار فيه، وفتح الباب أمام سعودية علمانية ليبرالية، ومن أساسيات العلمانية والليبرالية: إتاحة الفرصة لأصحاب الديانات المختلفة للتعبد، بل والدعوة إلى معتقداتهم بشكل علني، دون أن يتعرض لهم أحد.
2- منافسة إيران دوليا في مجال الحريات الدينية، لا سيما أن وضع المسيحيين في إيران شبيه بوضعهم في المملكة، لكن مع فارق أن إيران يوجد بها كنائس حالية، لكن المسيحيين هناك يتركزون بين عرقية الأرمن، وهناك أحاديث عن عدم سماح الدولة بالتبشير سرا أو علانية، وإعدام من يرتد عن الإسلام إلى المسيحية.
3- وضع قدم نافذة سعودية في لبنان، عبر استمالة مسيحييها بإنشاء الكنائس في المملكة، ودعوتهم للعمل، وقد يستتبع ذلك تقديم دعم مالي للتجمعات والهيئات المسيحية في لبنان، وذلك كله بغرض سحب البساط من تحت أقدام حزب الله، لا سيما بعد نجاح الحزب في استمالة جزء من التركيبة المسيحية القوية، ونتج عن ذلك تحالفه مع الرئيس اللبناني الحالي ميشيل عون.
في النهاية يظل صمت الرياض وعدم مسارعتها إلى نفي زوبعة الكنائس التي أثيرت منتصف نوفمبر، علامة استفهام كبيرة، بسبب حساسية الأمر، ودليلا قويا على أن ولي العهد أخذ القرار، كأكبر عربون للغرب والشرق أيضا، على أنه ماض في طريقه لهدم السعودية القديمة، وبناء أخرى منفتحة على النموذج الإماراتي، أو حتى الأوروبي.
أسعدك المولى وجعل ما تقدمه في ميزان حسناتك