“يستحقون الأموال التي دفعت فيهم”.. هكذا كشفت الرسائل المسربة مؤخرا لسفير دولة الإمارات العربية المتحدة لدى أمريكا، يوسف العتيبة، عن منظومة متكاملة لتحويل مراكز الأبحاث ذات الثقل إلى أحد أهم أذرع اللوبي الإماراتي حول العالم.

فخلال السنوات الماضية، تبنّى السفير الإماراتي مجموعة من الباحثين الشباب في مراكز التحليل السياسي بواشنطن، وتمكن بوسائله الخاصة من استقطابهم، ما جعلهم يعملون وفق أجندته السياسية، وأصبحوا بمثابة خمس أصابع تمثل خمس إستراتيجيات لـ “ذراعه التنفيذي” بالمجال البحثي.

وتعد أسماء مثل: إريك تراجر، ومختار عوض، وصمويل تاضروس، وبلال صعب، أبرز وجوه هذا الذراع، حيث تحولوا فيما بعد إلى “خبراء” لهم تلامذة ومريدون.

اعتمد العتيبة لبناء هذه المنظومة على خمس استراتيجيات أساسية، يمثل كل منها “مستوى” علاقة المؤسسة باللوبي الإماراتي، هي:

  1. الدعم المالي لمراكز أبحاث أمريكية، بهدف التأثير الجزئي على توجهها.
  2. تصدير اللوبي الإماراتي كممول رئيسي للمراكز، بهدف “تحويل” توجهاتها جذريا.
  3. “شراء” المراكز البحثية بالكلية، والهيمنة على مفاصلها التنظيمية وأسلوب إدارتها.
  4. إنشاء مراكز بحثية جديدة، لأغراض خاصة بترويج أجندة “اللوبي”.
  5. جذب العديد من الجامعات ومراكز الدراسات الكبرى، لافتتاح فروع لها بالإمارات.

الإستراتيجية الأولى: معهد واشنطن – إريك تراجر

منذ عام 2010 بدأ ضخ الأموال الإماراتية بالمركز لتتحول وجهته إلى تركيز البحوث الانتقادية التي تهاجم تيارات الإسلام السياسي بوجه عام.

وتعود علاقة “العتيبة” بالمركز إلى التقاطه أحد شباب الباحثين في نيويورك، والذي كان متدربا في ذلك الوقت، ثم  لفت الأنظار إليه حين كتب مجموعة مقالات يهاجم فيها جماعة “الإخوان المسلمين”، عقب ثورة يناير 2011 في مصر.

” إريك تراجر “

إنه “إريك تراجر“، الذي مول “العتيبة” رحلاته إلى القاهرة وتركيا وبريطانيا، من أجل كتابة مقالات نقدية عن جماعة الإخوان، استنادا إلى العديد من اللقاءات التي أجراها مع أعضائها بعد أن أخفى هويته الحقيقية كباحث في “معهد واشنطن”، وادعى أنه صحافي يعمل لوسائل إعلام أمريكية.

وبالعودة إلى كثير من القصص المفبركة حول استخدام الإخوان وعلاقتهم بالعنف، نجد أن “تراجر” هو مصدرها الأول، ليتحول من باحث صغير إلى “خبير في شؤون الحركات الإسلامية” لدى وسائل الإعلام الغربية.

الإستراتيجية الثانية: مركز التقدم الأمريكي – مختار عوض

يمثل هذا المركز أحد أبرز نماذج تأثير التمويل الإماراتي على “محتوى” ما يصدر عن مراكز الأبحاث الأمريكية، إذ كان متخصصا في قضايا الشأن المحلي بالولايات المتحدة في عهد رئيسها السابق، باراك أوباما، وحتى نهايات عام 2013.

لكن الفترة التي شهدت الإطاحة عسكريا بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر (محمد مرسي)، وتحديدا منذ يوليو 2013 وما تلاه، مثلت نقطة تحول في توجهات المركز، إذ تحول اهتمام أوراقه البحثية فجأة إلى منطقة الشرق الأوسط.

نجح “العتيبة” في تحويل اهتمامات المركز، عبر دعم عدة برامج بحثية وصل حجم تمويلها إلى مليون دولار عام 2014 فقط، بحسب الأرقام المعلنة على الموقع الإلكتروني للمركز.

أحد هذه البرامج تخصصت في دراسة “شباب الحركات الإسلامية”، وشارك فيه “الباحث المساعد” آنذاك، مختار عوض، الذي أصبح في ما بعد أحد الأذرع الرئيسية للعتيبة في حرب الهجوم على التيارات الإسلامية.

” مختار عوض “

مرت رحلة “عوض” بذات المراحل التي مر بها سلفه ” تراجر”، إذ تحول نطاق اهتمامه إلى ملف الجماعات الإسلامية، وبدأ في الانخراط بحملة الهجوم الضارية ضد الإخوان المسلمين.

ولأن جهود “عوض” جاءت لاحقه لـ”تراجر”، فقد ركزت أوراقه البحثية على متابعة محتوى القنوات الإخبارية المحسوبة على الإخوان المسلمين، والتي تبث من تركيا، بهدف ترصّد أخطائها والتحريض عليها بدعوى أنها تتبنى العنف.

وبتوالي دعم أوراق “عوض” إماراتيا، انتقل من كونه باحثا متدربا مع “براين كالتوس” بالمركز، ليصبح “خبيرا في شؤون التطرف” كما تصفه اليوم العديد من وسائل الإعلام الغربية.

كانت مكافأة “عوض” الكبيرة هي تعيينه في برنامج التطرف الذي تم تدشينه قبل عامين بجامعة “جورج واشنطن”، ويترأسه “لورينزو فيدينو”.

عمل “فيدينو”، ذو الأصل الإيطالي، مستشاراً لدى الاستخبارات البريطانية، قبل أن يتوجه إلى العاصمة الأمريكية ويعمل لصالح “العتيبة”.

وبمرور الوقت، تطورت علاقة العتيبة بالمركز، من مستوى التمويل إلى مستوى “التوجيه”، إلى أن ألقى محاضرة داخله بمناسبة نشر تقرير حول الدور الأميركي في المنطقة، هاجم فيه إدارة أوباما بسبب الاتفاق النووي مع إيران، ليتضح لاحقاً أن التقرير تمت كتابته بتوصية من “العتيبة” نفسه.

الإستراتيجية الثالثة: مجلس الأطلسي – بلال صعب

يعد أحد أكثر نماذج المراكز البحثية وضوحا في تعبيره عن أجندة التمويل الإماراتي، إذ دعمت “شيكات العتيبة” أنشطة بملايين الدولارات مؤخرا، وفقا لما أورده موقعه الإلكتروني الرسمي.

ولعل طبيعة علاقة “العتيبة” بالمركز هي ما جعلته واحدا من أكثر المؤسسات سفورا في تعبيرها عن مصالح اللوبي الإماراتي بالولايات المتحدة، حيث سيطر السفير على مفاصل المركز من رأسه (فريدريك كيمب)، وحتى شبكة الباحثين المتدربين.

وهنا يظهر اسم “بلال صعب“، الذي يعد أبرز من دعمهم العتيبة لترويج محتوى بحثي في ذات الاتجاه الذي يمثل أجندة الخارجية الإماراتية، وفي القلب منه التحذير المستمر من خطورة التيارات الإسلامية بوجه عام، والإخوان المسلمين بوجه خاص.

” بلال صعب “

لم يتلقف العتيبة “صعب” لشرائه من مجلس الأطلسي، بل التقطه من معهد “بروكينجز” وحول وجهته إلى المجلس، في ذات الوقت الذي بدأ فيه حملة “إقصاء” لعدد من الباحثين غير المتوافقين مع “سياسات التمويل”، وعلى رأسهم الباحثة الأمريكية المعروفة، ميشيل دن، التي تعمل حالياً في معهد كارنيجي.

طرد العتيبة “دن” قبل 4 أعوام بشكل مهين بعد رفضها الانصياع لإملاءات توجيه الأوراق البحثية لقلب الحقائق بشأن تقييم الأوضاع في مصر بعد الانقلاب العسكري، ليقوم بلال صعب بهذا الدور من خلال برنامج “دراسات الأمن” الذي أطلقه المركز.

” ميشيل دن “

وتكشف تسريبات رسائل العتيبة أن “صعب” أرسل بريداً إلكترونياً في منتصف يوليو 2015، يقترح فيه إنجاز فيلم وثائقي يهاجم قطر، ويحرّض الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” على سحب تنظيم كأس العالم 2022 من الدوحة، وهي الحملة التي لا تزال رحاها دائرة حتى اليوم بوسائل الإعلام التابعة لدول: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، التي أعلنت مقاطعتها الشاملة لقطر في 5 يونيو 2017.

معهد هدسون – صامويل تاضروس

يُحسب المركز بالأساس على اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة، ويقوم عمله على باحثين ينتمون إلى بلدان بالعالم الإسلامي، لكنهم يتبنون فكر منظمة الآيباك بحذافيره.

ترأس حسين حقاني، السفير الباكستاني السابق لدى واشنطن، المركز ابتداء من عام 2008، ويمثل تاريخ نهاية رئاسته (عام 2011)، منطلقا لتطور نوعي في علاقة المركز بشبكة اللوبي الإماراتي، بقيادة العتيبة.

بدأ المركز بعد ذلك في تبني ذات الإستراتيجية القائمة على تبني شبكة من الباحثين الشباب من داخل بلدان العالم الإسلامي، ليبرز اسم “صامويل تاضروس” الباحث المصري الناشئ آنذاك.

” صامويل تاضروس “

يتلخص دور “تاضروس” بالمركز في شن هجوم منتظم على تيارات الإسلام السياسي في مصر والمنطقة، مستخدماً لغة طائفية واضحة، إذ يُعدّ أحد الأذرع الممولة أيضا من رجل الأعمال الشهير، نجيب ساويرس، المعروف بمدى قربه من الكنيسة الأرثوذكسية المصرية واللوبي الصهيوني أيضا.

كما شارك “تاضروس” كلا من “تراجر” و”عوض” في وضع أجندة المؤتمر الذي نظمته “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية”، التي يمولها العتيبة، للهجوم على قطر قبيل اندلاع الأزمة الخليجية، وذلك بالتعاون مع كبير مستشاري المؤسسة، جون هانا، كما جاء في تسريبات رسائل العتيبة نفسه (طالع تقريرا سابقا للعدسة حول دور المؤسسة باللوبي الإماراتي).

الإستراتيجية الرابعة: معهد دول الخليج العربي

أنشأ العتيبة المركز بنفسه عام 2015 بهدف رئيسي هو “تقديم رجال أبو ظبي للأوساط البحثية والسياسية الأمريكية من خلال استضافتهم في مؤتمراته وندواته”.

ومن هنا ضم المركز الكاتب المصري المعروف، عبد المنعم سعيد، المعروف بتأييده الشديد للتطبيع مع إسرائيل، والولاء المطلق لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، الذي عمل معه طيلة العقدين الماضيين.

كما ضم المركز الباحث ذا الأصل الفلسطيني، حسين إبيش، الذي اعتمده اللوبي الإماراتي منذ سنوات طويلة، لعدائه الشديد للإسلاميين والربيع العربي.

يرتبط إبيش بعلاقات وثيقة مع الدوائر الصهيونية واليمين المتطرف في الولايات المتحدة، ويكاد لا يخلو مقال له من الإطراء على أبو ظبي وحكامها، وتوجيه النقد للدوحة.

” حسين ابيش “

الإستراتيجية الخامسة: الفروع الدولية

يمكن التأريخ لتسارع الخطى الإماراتية في هذا الاتجاه بعام 2006، عندما أعلنت أبو ظبي فتح أبوابها لأول مؤسسة فرنسية للتعليم العالي تؤسس فرعاً لها في منطقة الخليج، وهي جامعة السوربون العريقة.

وتعتبر السوربون حجر الزاوية في إستراتيجية أبو ظبي للتعليم العالي، وتعمل بشكل وثيق مع الحكومة لتطوير المشهد الأكاديمي بالإمارات، لكنها لم تكن الجامعة الدولية الأولى بها، فقد شهد عام 1995 تأسيس فرع للجامعة الأمريكية بدبي.

وفي أكتوبر من عام 2007 أعلنت جامعة نيويورك (أكبر الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة) عن نيتها فتح حرم جامعي كامل في أبو ظبي، بتمويل من حكومة الإمارة، ليتم الافتتاح الفعلي في وقت قياسي عام 2008.

ومنذ الافتتاح وحتى عام 2010 وفرت الجامعة تخصصات عدة، ركزت فيها على “الفنون الليبرالية”، وتمثل حجر زاوية في بناء شبكة الباحثين الشباب سالفة الذكر عبر تبنيها لمنح دراسية خاصة.

تطرح جامعة نيويورك أبو ظبي منحتين دراسيتين، يطلق على الأولى اسم “برنامج محمد بن زايد للعلماء”، وهي مخصصة لطلاب التعليم العالي داخل الإمارات (من غير المسجلين في جامعة نيويورك أبو ظبي)، والثانية هي منحة “محمد بن زايد للطلاب الأوائل في الدراسة الثانوية”.

ومنذ عام 2012 أتاحت الجامعة للطلاب إمكانية الاختيار بين الدراسة في أبو ظبي أو في نيويورك، وذلك عبر تحديد أحد المواقع كخيار أول والثاني كخيار بديل.

وفي عام 2017، حددت مدينة دبي الأكاديمية العالمية شهر نوفمبر الجاري موعدا لافتتاح أول فرع دولي لجامعة برمنجهام البريطانية، لتصبح أول جامعة مصنّفة ضمن أفضل 100 جامعة عالمياً، ومدرجة ضمن مجموعة “راسل جروب” لجامعات الأبحاث، تؤسس حرماً لها في دبي.

ولتسهيل تسارع جذب الفروع الدولية وعلمائها، أعلنت الإمارات عن نظام تأشيرات جديد، ويهدف لاستقطاب الموهوبين الأجانب في كل المجالات والحقول.

وهكذا تحولت العديد من مراكز الأبحاث الأمريكية من مؤسسات لإنتاج الدراسات والأبحاث المستقلة في الشؤون العالمية، إلى متلق لتمويل “اللوبيات” حول العالم، وناطقة بلسان مصالحها، وهو الوتر الذي لعب عليه العتيبة بدهاء، ليس فقط بدبلوماسية “دفتر الشيكات”، التي طالما كانت وسيلة “اللوبي السعودي” لشراء النفوذ في واشنطن، بل عبر شبكة تمثل “قاعدة” من الباحثين تمثل “ضمانا” لمستقبل توجيه هذه المراكز فيما بعد.