العدسة – مؤيد كنعان
عندما تأتي بداية شهر ديسمبر المقبل، ولا يتلقى موظفو غزة رواتبهم، ستكون الأمور قد تفاقمت على صعيد التحول الأخير الذي حدث في ملف المصالحة الفلسطينية بين حماس وفتح، أو بين حماس التي تدير غزة، والسلطة الفلسطينية التي تدير رام الله، وتعتبرها “إسرائيل” والمجتمع الدولي “حكومة شرعية”.
رواتب الموظفين كانت من أبرز الملفات التي تمت مناقشتها خلال التقارب الأخير الحاصل بين الحركتين برعاية مصرية، باعتبارها إحدى أبرز تجليات الإجراءات العقابية التي شرعت السلطة الفلسطينية في تنفيذها ضد حكومة حماس في غزة، والإشكالية الكبرى هنا هو أن السلطة و”فتح” لا تزالان تماطلان في مناقشة مسألة رفع الإجراءات العقابية عن القطاع، بداعي أنها لم تتسلم بعد كامل مهامها في غزة، وبهذا فإن ملف “التمكين” يبدو أولوية فتحاوية قصوى، في مقابل ملف “رفع الحصار والعقوبات” والذي تقول حماس إنه في قمة أولوياتها.
موقف مصر
إجتماع فتح و حماس للمصالحة بـــ “القاهرة”
لكن ما هو موقف الوسيط.. مصر؟
الأمر قد يتضح نسبيا بعد قراءة تصريحات أطلقها خليل الحيّة، عضو المكتب السياسي لحماس، خلال مؤتمر عقدته الحركة غربي مدينة غزة، الاثنين 27 نوفمبر، عندما قال: “كان توجّه الفصائل، في لقاء القاهرة، الفصل بين استلام الحكومة مهامها وحق الشعب في أن ترفع عنه كل العقوبات اللا إنسانية، حتى المصريون كان رأيهم رفع العقوبات”.
اجتماع القاهرة الأخير لم يكن مبشرا على الإطلاق، وبحسب محللين، فقد كان الفشل المصري في إقناع السلطة وفتح بالتجاوب مع استحقاقات المصالحة، والبدء في إجراءات رفع العقوبات المفروضة على غزة، كمقدمة لفتح ملفات أكثر عمقا، مبررا لعلو أصوات داخل حماس كانت تؤثر الصمت خلال الأسابيع القليلة الماضية، إما من تلقاء نفسها، أو بأوامر مباشرة من يحيى السنوار، قائد حماس في غزة، والذي طلب من المعترضين على المصالحة والتدخل المصري الصمت تماما، وإلا العقاب.
“خرجنا باتفاق بلا معنى، وبيان باهت، بسبب الضغوط الأمريكية على السلطة”، هذا هو ما قاله القيادي في حركة حماس صلاح البردويل، تعليقا على مشهد المصالحة الثاني في القاهرة، بعدما تمخض عن بيان موقع من الفصائل الفلسطينية “يطالب” بتطبيق اتفاق المصالحة، وتنظيم انتخابات عامة قبل نهاية 2018، وتخويل رئيس السلطة محمود عباس بتحديد موعد الانتخابات بالتشاور مع القوى الوطنية والسياسية، وإنهاء معاناة سكان قطاع غزة، وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية.
خطوة للخلف
“محمود عباس” و إسماعيل هنية
وفقا لما سبق، فإن اتفاق القاهرة مثل “خطوة للخلف” في ملف الانتخابات، فمن المعروف أن اتفاق 2011 كان ينص على أن تجرى الانتخابات خلال ستة أشهر، لكن البيان الختامي لاجتماع القاهرة تحدث عن إجراء الانتخابات قبل نهاية عام 2018، حيث تصل المدة إلى عام كامل.
محللون اعتبروا أن البيان الختامي للفصائل الفلسطينية في القاهرة صيغ بلغة دبلوماسية؛ “لتجاوز حالة الإحباط السائدة، وعدم الاعتراف بالفشل في هذه الجولة من المصالحة، وأن البيان كان أكثر عمومية من الاتفاقيات السابقة.
موقع “المركز الفلسطيني للإعلام”، المحسوب على حركة “حماس” نقل عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر، مخيمر أبو سعدة، قوله إنه لا يوجد ما يؤشر بأنّ المصالحة ستمضي قدماً، وأنه من خلال حديث القيادات في القاهرة، فإن المصالحة دخلت في نفق مظلم أو موت سريري؛ لأن هناك ضغوطا أمريكية وإسرائيلية على السلطة.
تراجعات
خلال تصريحات لإذاعة “صوت فلسطين”، في 16 نوفمبر الجاري، قال عزام الأحمد، رئيس وفد فتح لحوارات المصالحة وعضو لجنتها المركزية، إن نسبة تمكين الحكومة من تولي مهامها بغزة بعد استلام المعابر بلغت 50%، وهي نقطة مهمة وهامة، لكنه تراجع عن هذا التصريح في مقابلة مع تليفزيون فلسطين، قائلا إنها أقل من 5%.
وخلال ورقة عمل له في إحدى الندوات السياسية قبل عدة أيام، قال عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” محمد اشتية: “الإخوة في حماس متعاونون على أكمل وجه في كل ما يتعلق بمفاصل المصالحة بغزة”.
أما نائب رئيس وزراء حكومة التوافق زياد أبو عمر، فله تصريح في 23 أكتوبر الماضي، قال فيه: إن “الأمور بغزة تسير على ما يرام، وإن العديد من وزراء الحكومة تسلموا وزارتهم، ويتابعون العمل فيها من خلال الطواقم المختصة”، مشيرا إلى وجود تعاون ممن أسماها “الجهات ذات العلاقة في قطاع غزة”.
وفقا لتلك المواقف وغيرها، ترى حماس أن تراجعا فاضحا يعتري أداء السلطة الفلسطينية وتعاطيها مع استحقاقات المصالحة، وتؤكد أنه ناتج في الأساس عن ضغوط أمريكية وإسرائيلية مكثفة عليها لعدم التعاطي مع تلك المصالحة، وأكدت قيادات حمساوية مشاركة في اجتماع القاهرة الأخير، قبل أيام، أن الوسيط المصري أخبرهم بذلك صراحة.
الدور المصري
دور “مصر” في المصالحة الفلسطينية
هنا يجب أن يثار سؤالان: الأول، عن طبيعة وآفاق الدور المصري بعد إقرار القاهرة بتلك الضغوط، وما الذي سيفعله المصريون للحفاظ على ما أنجزوه منذ أسابيع قليلة في غزة، لدرجة اصطحاب ترسانة إعلامية من مذيعي “التوك شو” بالقاهرة لإلقاء الضوء على الأمر؟
أما السؤال الثاني، فيتعلق بأسباب الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على السلطة الفلسطينية لإجهاض ما تحاول مصر تحقيقه، رغم التحالف والتناغم الواضح بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والقادة في واشنطن و”تل أبيب”.
إجابة السؤال الأول يجب أن يبحث عنها المصريون بأسرع وقت، قبل أن يتحول “الإنجاز” الذي تم الاحتفاء به في القاهرة، وتصويره على أنه انتصار لدبلوماسية السلطة الحالية، إلى إخفاق جديد ستكون تبعاته أشد وطأة على المكانة الإقليمية لمصر هذه المرة، قياسا إلى حساسية القضية الفلسطينية وتأثيرها على تلك المكانة.
القاهرة تدفع
يجب أن يكون المصريون على استعداد لممارسة ضغوط معاكسة على السلطة الفلسطينية وحركة فتح، للتعاطي مع استحقاقات المصالحة، لكن واقعيا، وبما أن هناك تحفظًا أمريكيًّا إسرائيليًّا على ما يحدث، فإن أقصى ما يمكن أن تفعله القاهرة هو أن “تسدد وتقارب”، للوصول إلى حالة مصالحة باردة مع إيقاف التنفيذ بين حماس وفتح، بمعنى عدم السماح بالتصعيد بينهما خلال الفترة المقبلة، مع الإبقاء على الوضع الحالي بينهما، إلى حين استكشاف حقيقة مواقف الأمريكيين والإسرائيليين، وبالطبع مواقف القوى الخليجية الصاعدة حديثا وبقوة في هذا الملف، السعودية والإمارات.
المشكلة هنا ستكون في عدم قبول حماس بهذا الأمر، في حالة استمرار الإجراءات العقابية المالية من السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، وهو الملف الذي ستحاول القاهرة معالجته بالمسكنات إلى حين، فهل يكون من ضمن هذه المسكنات أن تتحمل مصر، أو أطراف خليجية داعمة للقاهرة وموقفها، الدعم المالي لموظفي غزة؟ الأمر غير مستبعد، وسيتضح مع أول ديمسبر، موعد استحقاق رواتب الشهر الجديد، والتي لن تدفعها حماس بكل تأكيد، على اعتبار أنها سلمت الأجهزة الحكومية للسلطة.
هل هي ضغوط؟
أما السؤال الثاني، المتعلق بأسباب الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لإجهاض ما تحاول القاهرة إنجازه، رغم التحالف بين السيسي، وقيادات واشنطن و”تل أبيب”، فإن الإجابة لم تكن بريئة، هنا يبرز تحليل يرى أن ما قامت به القاهرة في ملف المصالحة مؤخرا كان مبادرة من جهاز المخابرات العامة لم تتحمس لها القيادة السياسية كثيرا، بل ويقف ضدها جهاز المخابرات الحربية، الذي يناصب حماس عداء شديد، ولا ينسى الكثيرون ما قاله المذيع أحمد موسى، المقرب من ذلك الجهاز، بعد ساعات من الإعلان عن المصالحة في غزة، بأن مصر لن تنسى أن حماس أياديها ملطخة بدماء الجنود والضباط المصريين، وأنها ارتكبت أفعالا تضر الأمن القومي المصري.
هنا يسهل تصور أسباب عدم موافقة واشنطن و”تل أبيب” على التقارب الحمساوي الفتحاوي بوساطة مصرية.
التحليل الآخر، وهو الأكثر تداولا ومنطقية، يتحدث عن أن تلك الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على السلطة متفق عليها مع مصر، لصنع حالة ضغط دائمة على حماس، وتصوير الأمر أمامها بأن مصر “تنحت في الصخر” لمحاولة الخروج من السيناريو المظلم الذي ينتظر قطاع غزة، وأنها تكافح في سبيل ذلك ضغوطا من هنا وهناك لإتمام الأمر، وبالتالي، يجب على حماس إبداء الكثير من المرونة لدعم الموقف المصري، والكثير هنا قد يكون متفقا عليه بين “القاهرة ومن خلفها من عواصم خليجية”، من ناحية، و”إسرائيل”، من ناحية أخرى، ولن يقبل من حماس في هذا الإطار مرونة أقل من تسليم أو “قصقصة ريش” سلاح المقاومة، والموافقة على الاعتراف بـ “إسرائيل” والانخراط في محادثات السلام.
في كل الأحوال، سيكون على حماس أن تحسب خطواتها القادمة بدقة.
اضف تعليقا