كان عمره 17 عامًا فقط حين وجد عبد الرحمن الجندي نفسه محاطًا بأربع جدران سيكونون مأواه لست سنوات أخرى… لقد قُبض عليه وهو قاصر لم يبلغ الـ 18 من عمره بعد، لكن وبسبب مشاركته في إحدى المظاهرات الاحتجاجية قبضت عليه الشرطة المصرية وتنقل بين السجون سيئة السمعة لمدة 6 سنوات و3 أشهر.
في حواره الخاص مع واشنطن بوست، قال عبد الرحمن إن الوضع كان مزريًا للغاية، والأيام لا تمر، لذلك لجأ لتدوين مذكراته ويومياته أثناء هذه الفترة الصعبة بحثًا عن النجاة ومحاولة التغلب على الواقع المرير، مؤكدًا أنه كان يمني نفسه بأن هذه المذكرات ستُنشر يومًا ما، وهو ما أعطاه أملًا في النجاة وحافزًا على مواصلة الكتابة، التفكير في تحويل هذه المذكرات لكتاب يومًا ما أعطاه سببًا وجوديًا للبقاء ومقاومة الظروف في وقت كانت حياته لا تعرف شيء سوى الألم.
كان يعرف أن كل موقف سيدونه في هذه المذكرات سيضيف لقصته كثيرًا وسيمنحها التأثير المطلوب، التفاصيل مؤلمة وربما يجد البعض صعوبة في قراءتها بسبب ما تحويه من وحشية بين سطورها: تعذيب يومي للمعتقلين، حراس يجلدون السجناء ويضربونهم بالهراوات وأرجل الكراسي الخشبية، صعق بالكهرباء، تجويع، سباب… الخ.
“هذا هو المعنى الذي أريد أن يفهمه القراء من الكتاب: كل لحظة مؤلمة يمكن أن تتحول ليوم إيجابي في نهاية المطاف…” هكذا بدأ عبد الرحمن حديثه عن مذكراته التي هي موضوع أطروحة درجة الماجستير الملتحق به في كلية الفنون الجميلة في جامعة بيتسبرغ.
ألقي القبض على عبد الرحمن الجندي في القاهرة بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2013 بينما كان يجلس في سيارة مع والده أثناء تصويره لإحدى المظاهرات السلمية التي خرجت احتجاجًا على النظام الجديد.
لم يكن لعبد الرحمن نشاط سياسي يُذكر، لكن بسبب مقتل والد أحد أصدقاءه والده خلال فض اعتصامات مؤيدي الرئيس محمد مرسي والمحتجين على عزله، قرر عبد الرحمن المشاركة في المظاهرات، لكن مشاركاته لم تكن كثيرة بالرغم من ذلك.
قبل اعتقاله بيوم وقعت مشاجرة بينه وبين والديه الذين كانا يخافان عليه من الاعتقال بسبب المشاركة في هذه الأنشطة، لكن عبد الرحمن كان مصممًا على النزول للاحتجاج على القمع الذي تعرض إليه عدد من معارفه، آخرهم معلمه الذين كان يحبه كثيرًا وتعرض للاعتقال مؤخرًا.
توصلوا إلى حل وسط: سيصطحبه والده إلى الاحتجاج ولن يغادروا السيارة، سيتابعون الفعالية من داخل عربتهم الخاصة.
لكن ضباط في ثياب مدنية كانوا يقفون في الجوار، وعندما شاهدوا الهاتف في يد عبد الرحمن وهو يصور الحدث، اعتدوا عليه بالضرب وصادروا الهاتف، وقبضوا عليه وعلى والده.
أمضى الأب والابن أيامًا في انتظار الاستجواب، محشورين في زنزانة صغيرة مع عشرات الأشخاص الآخرين ينامون فوق بعضهم “بدون مبالغة”، كاد الجميع أن يختنقوا في هذه الزنزانة الضيقة، وبعد فترة من هذا الوضع المأساوي، حُكم عليهم في نهاية المطاف ضمن مجموعة مكونة من 68 شخصًا بالسجن لمدة 15 عامًا مع الاحتجاز داخل سجن شديد الحراسة بتهمة “التجمع غير القانوني”.
بعد إدانته قضائيًا، نُقل الفتى إلى السجن، حيث جُرد من ملابسه وتعرض للتحرش من قبل السجانين، وحُلق شعر رأسه، قائلًا إن ما حدث معه يُسمى “التشريفة”، وهي عبارة عن “حفل ترحيب واستقبال بالنزلاء الجديد، ضمن طقوس تهدف إلى “كسر إرادة السجناء وانتهاك كرامتهم”، حسب أحد السجناء القدامى.
بالرغم من صغر سن عبد الرحمن فإنه سُجن مع البالغين، وأكثر ما ضاعف خوفه، ليس فقط ما تعرض له شخصيًا من انتهاكات، ولكن ما تعرض له والده الذي كان محتجزًا معه، الخوف على حدوث أي مكروه لوالده فاقم أزمة عبد الرحمن، لكن حصول والده على عفو بعد ثلاث سنوات من الاعتقال خفف عنه قليلًا.
أثناء وقوفه داخل سيارة نقل تابعة للشرطة، رأى انعكاس صورته في المعدن، صُدم من المنظر، لكن كان هذا دافعًا له لأن يبدأ في الكتابة، وعند العودة للزنزانة كتب أول مقالاته باللغة العربية: “بقايا حلم ضائع وأمل يذبل…”
بكى زملاؤه في الزنزانة عندما قرأها عليهم، فقرر تهريب الورقة لأخته التي نشرتها على فيسبوك، في زيارتها التالية، أطلعته على ردود أفعال القراء: الصدمة والحزن والتعاطف… شجعه ذلك على الاستمرار، وأصبحت الكتابة هي الطريقة التي سيملأ بها معظم وقته وهو جالس في زنزانته.
لم تلق قضية عبد الرحمن الزخم الإعلامي الذي تمتع به غيره من المعتقلين البارزين، لم يهتف المتظاهرون في جميع أنحاء العالم باسمه، ولم تكتب أعمدة في الصحف الدولية تطالب بالإفراج عنه ولم تكن هيئات التحرير على دراية بمحنته من الأساس.
وضعه المأساوي أيضًا لم يكن استثنائيًا، على العكس، كان هذا هو الشائع في مصر، ومعظم المعتقلين السياسيين يتعانون من هذه الأوضاع، وربما أسوأ وأكثر وحشية، لقد كان عبد الرحمن مجرد واحد من بين أكثر من 60 ألف سجين سياسي في السجون المصرية، بينهم لا يزالون معتقلون على ذمة المحاكمة.
كشف تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز عن حجم الانتهاكات التي تعرض لها السجناء، عدد كبير منهم تهمته الوحيدة أن عبر عن رأي مخالف للسلطات.
أثناء وجوده في السجن، التحق عبد الرحمن بجامعة عين شمس وتخرج في النهاية بدرجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية، ولعل هذه الحسنة الوحيدة في القانون المصري الذي يسمح للسجناء باستكمال تعليمهم، رُغم ذلك فإن البعض لا يتمكنوا من الاستمرار بسبب عراقيل أخرى تقابلهم مثل النقل للامتحان والحصول على موافقة الجامعة الخ.
كطالب، سُمح له بالحصول على كتب باللغة الإنجليزية، وقال الجندي إنه قرأ أكثر من 300 كتاب، يدرس ويكتب معظمها في الليل بجوار حمام الزنازين، حيث يوجد ضوء خافت ويكون الوضع أكثر هدوء لأن معظم المعتقلين نائمون.
إصرار عبد الرحمن على مواصلة تعليمه كان سببه أمله في أنه يومًا ما سيخرج من هذا السجن، وأن مذكراته التي يكتبها عن هذه الفترة ستحقق نجاحًا منقطع النظير.
وتابع “ما شجعني على الاستمرار فكرة أن كل ما مررت به لم يكن عبثًا على الإطلاق… كلها تجارب يجب استغلالها للاستفادة منها يومًا ما”.
تسريب كتاباته خارج السجن لم يكن بالأمر الهين، فالإدارة لا تسمح بإدخال وإخراج مثل هذه الرسائل، لذلك كان عبد الرحمن يلجأ إلى دس قصاصات الورق التي يكتبها بين غسيله المتسخ ويسلمه لعائلته خلال الزيارات الشهرية.
بدأت كتاباته تحظى بالاهتمام الحقوقي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وفي عام 2018، نشرت منظمة مدى مصر، وهي واحدة من الأصوات المستقلة الوحيدة المتبقية في مصر، مقالاته في سلسلة متعددة الأجزاء بعنوان: “ياما في السجن”.
في إحدى المقالات تحدث عن المعاناة التي كان يعانيها هو وآخرين داخل زنزانة صغيرة لا يملك الفرد فيها أكثر من 12 بوصة:
“مشينا على أطراف أصابعنا متقافزين عبر الزنزانة، محاولين ألا نطأ رأس أي شخص أو بطنه بالخطأ، هذان أكثر عضوين يؤلمان عند دهسهما. استهدفنا الأيادي والأقدام قدر ما استطعنا. عند اقترابنا من باب الزنزانة، صرخت بأننا جاهزان. انفتح الباب محدثًا ضجيجًا عاليًا للسماح لنا بالخروج لأول مرة منذ أسبوع. قضينا أسبوعًا كاملًا نتعفن مع 64 سجينًا آخر في زنزانة صغيرة مساحتها أربعة في خمسة أمتار داخل معسكر السلام للأمن المركزي.”
مع تأييد الحكم عليه بعد الاستئناف، كان أمله الوحيد في الإفراج المبكر هو العفو الرئاسي، لكن هذا لم يحدث، وتنقل بين سبعة سجون في السنوات الست التي قضاها، وأخيرًا، تقرر أن خطأ كتابي أدى إلى محاكمته كشخص بالغ رغم كونه قاصرًا وقت الأحداث، وعليه أعيدت محاكمته عندما كان قاصرًا وأُطلق سراحه في يناير/كانون الثاني 2020…. أيقظه أحد حراس السجن ليخبره بالأخبار… غادر السجن فجأة كما دخله.
يعيش عبد الرحمن الجندي الآن في بيتسبرغ، يقضي أيامه في كتابة أطروحة الماجستير، والعمل على إطلاق سراح سجناء آخرين وإلقاء محاضرات حول حقوق الإنسان.
وقال إن قراءة أعمال المقاومة لكتاب مصريين معاصرين في السجن، مثل شعر مصطفى إبراهيم وتميم البرغوثي وروايات أهداف سويف، ألهمته…. “لقد استوعبت ما تعنيه المقاومة هذه من خلال هذه الكتابات”
وأضاف “أحلم أن يلعب كتابي نفس الدور للأجيال القادمة… قصتي موجودة لأنني أسردها… لقد كنت شاهدًا على كل هذا، لا يُمكن أن تُخفى كلماتي…”
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا