العدسة – أحمد عبد العزيز

بات حال وسائل الإعلام في بعض البلدان العربية حاليا، أشبه بقرود الحكمة، التي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، خاصة إذا كان ما ستنقله من معلومات، يفضح الحكومات التي تعمل في ظلها تلك الوسائل.

وجاءت فضيحة صفقة الأسلحة بين اليونان والسعودية، مثالا صارخا على حالة التجاهل والتعتيم الإعلامي الكبير الذي تلجأ إليه الرياض للمداراة على الجرائم الكثيرة التي باتت تتورط فيها الفترة الأخيرة، في ظل السياسة المتهورة وغير المحسوبة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يعتبره الجميع بمثابة الحاكم الفعلي للبلاد حاليا، بعد تهميش دور الملك سلمان بن عبد العزيز.

فقد التزمت وسائل الإعلام السعودية برمتها، الصمت التام والمطبق حول هذه الأزمة التي تضرب الحكومة اليونانية في مقتل وتكاد تتسبب في سقوطها، ولم تتناولها إلا في النزر اليسير للغاية، وبتصريحات ملتوية مفبركة، أو عبر هجوم مصطنع أو دفاع زائف يحاولون من خلاله الرد على كم الفضائح التي تطاردهم.

 ” أليكسيس تسيبراس “

 

صفقة مشبوهة

فبعدما أعلنت الحكومة اليونانية أنها بصدد إتمام صفقة أسلحة مع السعودية عبر تسليمها فائض الصواريخ اليونانية، بمبلغ 66 مليون يورو، اندلعت أزمة طاحنة داخل الحزب الحاكم في أثينا، بالتزامن مع الإدانة الدولية للصفقة من قبل جماعات حقوق الإنسان، حيث أكدت منظمة العفو الدولية أن هذه الذخائر قد تستخدمها السعودية في حربها ضد اليمن، وهي الحرب التي يتحمل المدنيون وطأتها حتى الآن.

وطالبت المنظمة فور الإعلان عن الصفقة في مطلع العام الجاري، الحكومة اليونانية إلى إلغاء بيع المعدات العسكرية ونقلها إلى السعودية، ورفض الموافقة على نقل كل أنواع الأسلحة التقليدية والمواد الحربية التي تستخدم في النزاع الدائر باليمن.

كما شكك أعضاء بارزون في الحزب الحاكم في اليونان، في نزاهة هذه الصفقة، مشيرين إلى أنها قد تكون شابها عمليات فساد، كما ألمحت لجنة صفقات الأسلحة بالبرلمان اليوناني إلى أنها قد تضطر إلى إلغاء الصفقة بشكل كامل، بسبب الغموض الذي اكتنف العملية برمتها.

وهو ما دفع الحكومة في النهاية إلى الإعلان بأنها ستلتزم بوقف تصدير الأسلحة إلى السعودية فور صدور قرار من الاتحاد الأوروبي بفرض حظر على صفقات السلاح مع الرياض،  بعدما تبنى البرلمان الأوروبي قرارا في شهر سبتمبر الماضي ، حول مراقبة تصدير الأسلحة، جدد فيه دعواته لفرض حظر على توريد الأسلحة إلى السعودية.

وقال المتحدث باسم الحكومة اليونانية، إن بلاده في انتظار قرارات البرلمان الأوروبي وسوف تعمل وفقا لها، مضيفا أن الصفقة مجمدة لحين صدور القرارات بشكل نهائي.

” محمد بن سلمان “

 

تصدير الدماء بمقابل مادي

ونقلت صحيفة “الجارديان” البريطانية عن مسؤول حكومي يوناني سابق قوله: إن أثينا هي محور الاستقرار والسلام والصداقة في المنطقة، وهذا ما يجب عليها تصديره لبلدان العالم لا السلاح، مؤكدا أن بلاده ليست في حاجة إلى هذه الصفقة، خاصة وأن قيمتها تبلغ 66 مليون يورو، وهو مبلغ من وجهة نظره لا يستحق كل هذا العناء، فهو ليس المبلغ الذي سيوفر الرخاء لليونان ويقيلها من عثرتها المالية.

وفي الأسبوع الماضي، أعرب وزير الداخلية اليونانية “بانوس كورليتيس”، وهو عضو بارز في تيار اليسار المتشدد التابع للحزب الحاكم، عن مخاوفه من استخدام هذه الأسلحة في عمليات انتهاكات لحقوق الإنسان باليمن.

وقال في تصريحات تليفزيونية، إنه من الواضح أن لكل بلد الحق في استخدام فائض الذخائر والأسلحة التي يمتلكها والتي لا يكون في حاجة إليها، ولكن يجب أن يتم ذلك بحذر تام، لافتا إلى أنه لا يمكن لبلد مثل اليونان أن يبيع أسلحة بدون التأكد من الكيفية التي ستستخدم بها هذه الأسلحة وإلى من سوف توجه البنادق.

وقد تسبب تصاعد الرفض الشعبي لتلك الصفقة داخل اليونان إلى توتر الأوضاع داخل الحكومة، حيث انتقدت أحزاب المعارضة انعدام الشفافية في هذه الاتفاقية، بل إن الأمر وصل بالبعض إلى المطالبة بإقالة وزير الدفاع “بانوسكامينوس”، الذي يرأس حزب “أنيل” الوطني، وهو حزب صغير يشارك في الحكومة الائتلافية الحالية في اليونان.

وبالرغم من سيطرة الحكومة الحالية على ما يزيد عن نصف مقاعد البرلمان اليوناني، إلا أنها فشلت في دفع الاتهامات عنها وعن رجالاتها في تلك الصفقة، أثناء جلسة الاستجواب التي تعرض لها وزراء في الحكومة بسبب بيع الأسلحة إلى السعودية.

 

وسيط الرياض “صاحب سوابق”

ومؤخرا، أمرت النيابة العامة في اليونان، بالتحقيق في صفقة بيع الأسلحة اليونانية إلى الرياض، وسط اتهامات بأن وزير الدفاع قد خالف التشريعات بعدما لجأ إلى التعامل مع “وسيط” يوناني اعتبره كممثل للحكومة السعودية في الصفقة!.

وبينت “الجارديان” أن وثائق مسربة نشرت في وسائل الإعلام مؤخرا، كشفت أن ذلك الوسيط هو رجل أعمال يوناني، يمتلك شركة لبيع الذخائر والأسلحة، ومهرب معروف سبق إدانته في بعض الجرائم!.

وهنا كانت المفاجأة الصادمة التي تجاهلتها كل وسائل الإعلام السعودية، فلماذا تلجأ حكومة الرياض إلى “مهرب أسلحة” ليمثلها في صفقة أسلحة مع الحكومة اليونانية؟ وإن كانت أزمة بهذه الضخامة تكاد تعصف بالحكومة اليونانية، فلماذا لا نجد لها أي صدى داخل الحكومة السعودية، ولم نسمع صوتا واحدا يطالب بالتحقيق مع المسؤولين عن عقد هذه الصفقة واللجوء إلى مهرب صاحب سوابق ليمثل السعودية؟!.

إلا أن مرور الأزمة داخل العاصمة الرياض كأن لم تكن، يكشف زيف الادعاءات الحالية التي يطلقها ولي العهد من أنه أطلق حملة موسعة لمحاربة الفساد والكسب غير المشروع والنهب المنظم من أموال الدولة، بعدما ألقى القبض على عدد كبير من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال، حيث تكشف صفقة الأسلحة اليونانية أن الجميع فاسدون بما فيهم ولي العهد نفسه الذي يتولى وزارة الدفاع في الوقت ذاته، وأن الأمر لا يعدو كونه صراعا على كعكة مكاسب.

 

نفي لا يغير من الحقيقة

وفي كلمته أمام البرلمان، حاول وزير الدفاع نفي هذه الاتهامات بشدة، قائلا إنها صفقة بين الحكومات، ولا يوجد فيها أي وسطاء، معتبرا أن رجل الأعمال اليوناني لم يكن وسيطا، وإنما هو مفوض لتمثيل الرياض، لافتا إلى أن المعارضة تحاول عمدا زعزعة استقرار الحكومة، عبر اصطناع فضيحة لا أساس لها من الصحة.

وطبقا للقانون اليوناني، الذي وضع تحت إشراف الدائنين الدوليين لليونان، كجزء من حملة لمكافحة الفساد عقب الانهيار الاقتصادي الذي تعرضت له البلاد مؤخرا، فإن استخدام الوسطاء في العقود الحكومية يعد أمرا مجرما وغير قانوني.

ولفتت الصحيفة البريطانية، إلى أن هذه الصفقة سواء تمت أم لم تتم، فقد أضرت في كل الأحوال بالحكومة اليونانية الائتلافية الحالية، التي تعهدت في بداية توليها لمقاليد السلطة بالقضاء على الفساد، وهو ما ظهر عكسه بشكل تام بعد اتهامها هي ذاتها بالفساد والتورط في صفقات مشبوهة.

ويرى محللون، أن اليونان وبلدانًا غربية أخرى مثل بريطانيا، يتعجلون عقد صفقات الأسلحة المماثلة مع السعودية، بهدف تحقيق مكاسب مادية في ظل التوترات الاقتصادية التي تشهدها تلك البلدان، وهو أمر واقع لا يستطيعون الفرار منه أو إيجاد بديل له.

ويرى حتى أنصار الحكومة اليونانية الحالية، أن هذه الصفقة كانت ضربة قاضية لثوابتها الأخلاقية التي جاءت بسببها إلى سدة الحكم، والتي كانت عاملا حاسما في نجاحها وإقناع الجماهير اليونانية بقدرتها على إدارة البلاد تحت غطاء من الشفافية.