استرسلت يوماً في بكاء لخبر أسعدني، ثم قطع عليَّ لحظاتي وجه ابني ذو الثلاثة أعوام وقد تقضب جبينه، وكسا الحزن وجهه، وثبًّتَ عينيه على وجهي، ثم سألني بصوت خافت متهدل (أمي لماذا تبكي؟). شعرت للحظات أن عالمه قد توقف عند حدود دمعي، وكأنه يقول لي إذا بكيت أنت يا أمي فماذا أصنع أنا؟! حملت صغيري سريعاً وأنا أحاول أن أكفكف دمعي بعد أن خطف قلبي خوفه وحيرته. فدموعنا ما إن تنساب حتى تمحي معها آمال صغارنا وبسمات وجوههم.

كان هذا بداية جزء بدأ يتشكل في وعيي، بدأت أفهم لماذا يُحرِّم عليّ صغيري أن أغلق عيني في أشد لياليّ إرهاقاً طالما لا تزال عيناه مفتوحتين، استفيق فزعة على صوته وهو يقول مترجياً (أمي لا تنامي)، ويظل متابعاً لعيني إلى أن يغلبه النعاس.

طالما أمدتني آية (لا تأخذه سنة ولا نوم) بالأمان والراحة، تعلم في نفسك ضعفا وأنت مستيقظ، ثم تصل بضعفك إلى ذروته وأنت تخلد إلى النوم لتودع نفسك أمانة عند من لا تأخذه سنة ولا نوم، وبهذه الآية أيضاً فهمت لماذا لا يجب عليّ أن أنام قبل طفلي. لماذا أول شيء يبحث عنه أولادي عند يقظتهم هو أنا، وأظل أراقب رحلة بحثهم القصيرة عني بين حجرات البيت في صمت والابتسامة تعلو وجهي ثم ما إن يرونني حتى ترتاح قسمات وجوههم.

أعادني هذا سنوات إلى الخلف عندما كنت في مرحلتي الجامعية  أذاكر مع صديقتي في بيتها،  فتخرج أمها إلى العمل صباحاً لتترك خلفها البيت بارداً لا روح فيه. ثم تمر ساعات وأسمع باب البيت بعد الظهيرة وقد أغلق وأعرف أن الخالة سحر قد عادت إلى البيت  فأشعر حينها مع أنها ليست أمي بأن البيت قد عاد بيتا.

كانت فترة امتحاناتي الجامعية تمر علي بصعوبة شديدة، بعدما كنا نفرغ من الامتحانات وفي آخر يوم فيها يصبح لدي رغبة ملحة أن أعود إلى البيت سريعاً وربما ضحيت بأوقاتي المميزة مع صديقاتي لأجل ذلك، ليس لإرهاق أو رغبة في النوم وإنما فقط لأجلس وسط سرير أبي وأمي ولو لنصف ساعة، أذكر كم كان يمثل لي هذا سكوناً بعد صخب مزعج، كنت أشعر أن علي فعل هذا حتى أستعيد نفسي  من جديد وأشعر أنني عدت إلى عائلتي بعد ما جعلتني أيام الامتحانات أعيش كأيام المغترب القاسية.

هكذا الآباء هم قلعة أمان أبنائهم، أو قل قارب أمانهم، هكذا أُفضل أن أقول بعدما كنت أجاور أولادي وهم يلعبون لعبة الصراحة، سأل أحدهم الآخر إذا علقت في قارب مع شخص، من تحب أن يكون هذا الشخص؟ ربما لو كان ابني يافعاً لتمنى أن يكون مع شريكة حياته. لكنه أجاب بلا تردد (مع ماما)، ابتسمت ابتسامة في نفسي لم أبدها لهم، انتقل أولادي للسؤال الثاني وظللت أنا عالقة في إجابة ابني على السؤال الأول.

لم أشأ أن أخبره أنني لست أبداً الشخص المثالي الذي تعلق معه في قارب يا صغيري، أنا لست على وفاق جيد مع متسع الماء خاصة لو كنتُ في وسطه، سأخبرك وحاول ألا تسمع: أنا أخاف يا ولدي! هذه هي معضلتي. يتوجب علي أن أكون وقود أمانكم في الوقت الذي أُحبس فيه أحياناً خلف أبواب الخوف، يفترض بي أن أعطيكم إجابات على أسئلة أعيتني الحيل دون أن أجد لها إجابة، منتظر مني أن اتجاوز بكم اختبارات الثبات وأن أعلمكم قهر المحن.

أتمنى ألا أخون أمانكم هذا يوماً، وأن تظل الدنيا التي ترونها بعيوننا مشرقة في عيونكم، أتمنى أن أحسن التصرف يا ولدي وأصل بك إلى بر الأمان بهذا القارب العالق وألا يخيب فيّ ظنك.

أن تعرف وتدرك حجم الأمان الذي نمثله – نحن الآباء- لأبنائنا كفيل بدفعك إلى السعي للمحافظة عليه، يصعب عليك بعد أن تعرف أن قدر الأمان الذي ينشأ فيه أبناؤك هو ما يحدد تلك الطريقة التي  تنضج بها عقولهم وتُسَوّى بها نفوسهم.

لن تألو جهداً بعدها كي يظل حبل الأمان ممدوداً بينك وبينهم، ستدع من  كلماتك عبارات التهديد بالفراق (سأتركك هنا وحدك إن لم تفعل كذا)، ستسعى أن يعيش أبناؤك في بيت معلوم المبادئ والقواعد، ففي القواعد أمان، ستغمرهم بعبارات الحب والتقدير، وتخبرهم أنك تحزن لفراقهم، ودع أحضانك تخبرهم بفرحة لقائهم. لن تصرخ في وجههم مجدداً، ستخفي عنهم ضعفك، ولن تخبرهم بخوفك بل ستسمعهم كل عبارات القوة واليقين والثبات. ستتركهم يتحدثون بل وستذهب إليهم يوماً مستشيراً ، لن تتشفى في أخطائهم، وستقلع فوراً عن تهديدهم بل ستذكرهم دوماً أنك واقف خلف ظهورهم أنّى التفتوا وجدوك.

لك بعد كل هذا أن تستمتع يوماً برؤية قواربهم تسير بجوار قاربك، ولن تحزن أبداً إذا سبقوك، ستكون قد أعطيتهم ما يكفيهم إذا وقفت مراكبهم السائرة، بل وربما سيأتي يوم تظل عينك أنت مثبّتة  طويلاً على وجوههم تستمد منها أنت أمانك.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.