العدسة – منصور عطية

لطالما يقول العرب إن القضية الفلسطينية هي قضيتهم المركزية والأولى، وتدندن أنظمتهم الحاكمة حول ما تمثل لهم القدس من مكانة تاريخية ودينية خاصة، توازي ما للحرمين الشريفين من تقديس في نفوس المسلمين.

لكن يبدو أن الواقع مختلف، وأن ما يُقال في العلن غير الذي يُحاك في الغرف المغلقة، ولعل هذا ما كشفه قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي.

تقارير متعددة، تحدثت عن اتصالات أجراها ترامب بزعماء وقادة دول عربية قبل شروعه في اتخاذ قرار الاعتراف بالقدس، ونقل سفارة واشنطن إليها.

 

ردود أفعال “ميتة”

تقارير إعلامية نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن ترامب أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره.

وأشار إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء تتجاوز التقديرات السائدة في واشنطن وتل أبيب، بقوله “هناك فرق بين الإعراب عن موقف معارض، وبين توجيه رسالة كسر أوانٍ”.

وتابع “كاتس”: “وبما أن الرئيس ترامب أعلن قراره بعد هذه الاتصالات فهو يعكس أنه لم يتلق مثل هذه الرسائل “كسر الأواني” من الزعماء العرب الذين يعتمدون كثيرًا في هذه الأيام على السياسة الأمريكية ويحتاجون إلى الأمريكيين، وأيضًا إلى إسرائيل، في مواجهة إيران”.

وأضاف أنه “لا يوجد في العالم العربي في الدول الرائدة، نفس الحماسة التي نسمعها في الجانب الفلسطيني ولا لدى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” أو لدى كل محور الإخوان المسلمين، وهذا ليس عن طريق الصدفة”.

واستبعد الوزير بحكومة الاحتلال أن يكون للسعودية ردود فعل سلبية تجاه قرار ترامب تؤثر على تحالفها مع إسرائيل.

“ترامب” في المملكة العربية السعودية

 

ضوء أخضر

القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًا”.

وكشف مراسل القناة العبرية أن كلاً من السعودية ومصر “أعطيتا ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.

السيسي و “بن سلمان”

وتابع المراسل: “ومن المؤكد أن إعلان ترامب وبداية إجراءات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يعتقد البعض أنها قد تشعل المنطقة، لم يكن ممكنًا أن يتم دون التنسيق مع السعودية ومصر، فالفلسطينيون، يدفعون ثمن التغييرات الكبرى في المنطقة”.

 

تمهيد بطعم التطبيع

بطبيعة الحال، فإن هذه الخطوة التصعيدية سبقتها خطوات أخرى تمهيدية على مدار الأشهر الماضية، انشغل خلالها العرب بقضية التطبيع مع إسرائيل.

وبدا من خلال العديد من الشواهد والوقائع التي رصدها وحللها (العدسة) أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، بخطوات سرية وأخرى علنية تتبرأ منها دائمًا.

وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية إن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًا في شهر سبتمبر الماضي هو ولي العهد محمد بن سلمان.

“تركي الفيصل” و مسؤول إسرائيلي

كما أكد الصحفي الإسرائيلي “أرييل كهانا” الذي يعمل في أسبوعية “ماكور ريشون” اليمينية القومية، في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر في سبتمبر، أن ابن سلمان زار إسرائيل مع وفد رسمي، والتقى مسؤولين.

وكانت الإذاعة الإسرائيلية الرسمية الناطقة باللغة العربية قالت في السابع من سبتمبر “إن أميرًا من البلاط الملكي السعودي زار إسرائيل سرًا، وبحث مع كبار المسؤولين الإسرائيليين فكرة دفع السلام الإقليمي إلى الأمام”.

ولعل عمليات جس النبض اشتدت للغاية خلال الفترة القصيرة الماضية، على نحو تتحين معه السعودية الجديدة، عندما يصل ولي العهد “محمد بن سلمان” إلى العرش رسميًا، الفرصة لإعلان جريء بتطبيع، يساير خطوات أخرى صدمت المجتمع السعودي المحافظ، مثل السماح بالاختلاط وقيادة المرأة، وغيرهما.

 

مصر.. حدث ولا حرج

في مصر، الأمر مختلف كثيرًا حيث أصبح الحديث عن التطبيع غير ذي جدوى، بعد أن وصلت العلاقة بين النظام الحاكم فيها والاحتلال لمستويات غير مسبوقة دفعت السيسي إلى لقاء علني هو الأول من نوعه بين رئيس مصري ورئيس وزراء الاحتلال منذ سنوات.

السيسي و “نتنياهو”

كما تجاوز الواقع الحديث عن علاقات دافئة أو حتى تنسيق أمني وعسكري إلى إعداد الدراسات الإسرائيلية المستفيضة حول الأهمية التي تكمن وراء بقاء السيسي رئيسًا لمصر، الرغبة الإسرائيلية في ذلك.

هاتان الدولتان تحديدًا، مصر والسعودية، هما المنوطان بالحديث عن لعب الدور الأكبر في تمهيد الأرضية للقرار الأمريكي.

ولعل هذا ما ألمح إليه الكاتب البريطاني الشهير “ديفيد هيرست” في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” رأى فيه أن ثمة أجواء هيأها داعمون إقليميون لترامب قبل أن يعلن قراره التاريخي.

وأشار الكاتب إلى ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، عن مصادر رسمية فلسطينية وعربية وأوروبية، أن ولي العهد السعودي، اقترح على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال لقائهما بالرياض نوفمبر الماضي، خطة ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وصفتها بأنها منحازة لإسرائيل أكثر من خطة ترامب نفسه.

بن سلمان و محمود عباس في “الرياض”

الصحيفة قالت إن “ابن سلمان” اقترح خطة تكون فيها الدولة الفلسطينية مقسمة إلى عدد من المناطق ذات حكم ذاتي، وتبقى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة “ملكًا” لإسرائيل، وتكون “أبو ديس” عاصمة فلسطين وليس القدس الشرقية المحتلة، وكذلك لن يمنح حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

ورأى “هيرست” أنه جرى الترويج لرؤية ولي العهد عبر جوقةٍ من الكتاب والصحفيين السعوديين المثيرين للجدل والقريبين من دوائر الحكم بالمملكة، تصب جميعها في المطالبة بالتطبيع مع الاحتلال، والنأي بالنفس عن القضية الفلسطينية، واللعب على وتر ماذا استفاد السعوديون من فلسطين.