العدسة – منصور عطية

لم يكن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين البدء في سحب قوات بلاده من سوريا مفاجئًا، بقدر ما حمله من دلالات قوية جديرة بالتوقف أمامها.

القرار المتوقع، سبقته خطوات أخرى في إطار جهود التسوية السياسية للأزمة السورية، بقيادة الثلاثي “روسيا وتركيا وإيران”، والتي تكللت بسبع جلسات لمؤتمر “أستانا”.

الغرض الرئيسي المعلن وراء سحب القوات الروسية هو انتهاء مهمتها بالقضاء على التنظيمات المسلحة التي كانت تقاتل نظام بشار الأسد، وهو ما عبر عنه “الكرملين” في بيان له بالقول: إن “عملية إنقاذ سوريا انتهت، ولا داعي للإبقاء على قوة عسكرية كبيرة هناك”.

 

رسالة ودلالة للانسحاب

“بوتين”، الذي وصل صباح الاثنين إلى قاعدة “حميميم” الجوية الروسية في محافظة اللاذقية السورية، أمر علانية وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة ببدء “سحب مجموعة القوات الروسية إلى نقاط تمركزها الدائم”.

وعلى الرغم من هذا الانسحاب، إلا أن “بوتين” أشار إلى أن مركزين روسيين في طرطوس البحرية و”حميميم” سيواصلان العمل في سوريا بشكل دائم.

وكان الرئيس الروسي قد قرر سحب الجزء الأكبر من مجموعة القوات الروسية في مارس 2016، لكن لم تتخل عن التزاماتها بتزويد الحكومة السورية بالأسلحة والمعدات العسكرية وتدريب الاختصاصيين العسكريين.

ولعل الدلالة الأبرز من إعلان “بوتين” رسالة مفادها أن روسيا لا تزال متواجدة في سوريا عسكريًّا تحسبًا لأي تطورات غير متوقعة، فيما يخص تنظيم “داعش” والمجموعات المسلحة التي كانت تقاتل نظام الأسد.

تلك الرسالة ربما تكون موجهة في المقام الأول للغريم التاريخي والتقليدي للروس، الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسيطر عمليًّا على مساحات واسعة من سوريا، من خلال دعمها للحزب الديمقراطي الكردستاني.

إذن، فإن الرغبة في استمرار النفوذ الروسي الواسع لمواجهة النفوذ الأمريكي قد تفسر سر الإبقاء الدائم على قوتين روسيتين؛ بحرية في طرطوس وجوية في “حميميم”، فضلًا عن الرغبة في إعلام الجميع باستمرار الدعم لنظام الأسد، وعدم التخلي عنه حتى بعد زوال أو خفوت التهديدات التي تواجهه.

 

دور تركي متعاظم

ولعل ما سبق ولحق قرار” بوتين” يشير إلى دور تركي متعاظم في التسوية السورية، وليس أدل على ذلك من الزيارة غير المعلنة التي قام بها “بوتين” إلى العاصمة لتركية أنقرة بعد إعلان سحب قواته، تخللهما زيارة قصيرة لمصر.

هذا الدور شهد به “بوتين” شخصيًّا، عندما أشاد على هامش قمة الـ”20″ يوليو الماضي، بالتقدم الذي أحرزته التسوية السورية ودور أنقرة الملموس في ذلك.

وقال “بوتين” مخاطبًا “أردوغان”: “الفضل الملموس في ذلك، يعود لموقفكم يا سيادة الرئيس، حيث تبدّل الوضع نحو الأفضل في سوريا، والضربة القاصمة التي تلقتها العصابات الإرهابية هناك تمت في هذه الأثناء بما خلص إلى قطع التسوية شوطًا كبيرًا”.

وفي منتجع “سوتشي” الروسي الشهير، التقى “بوتين” نظيريه التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، نوفمبر الماضي، في مباحثات تناولت الشأن السوري.

وأعلن “بوتين”، أنه أطلع الرئيسين التركي والإيراني على مباحثاته مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، و”استعداده لإصلاحات دستورية وإجراء انتخابات”، وقال إن الجهود الروسية الإيرانية التركية “سمحت بمنع تفكك سوريا، وأتاحت فرصة حقيقية لوضع حد للحرب الأهلية المستمرة لسنوات”.

وشدد على الدور البارز الذي يلعبه نظيراه في مفاوضات “أستانا” بشأن الأزمة السورية، وهي المفاوضات التي أتاحت مع انطلاقها، قبل نحو عام لأول مرة، جمع ممثلي الحكومات والمعارضة السورية حول طاولة واحدة.

وأوضح “بوتين” أن 7 جولات من مفاوضات “أستانا” توجت بسلسلة قرارات مصيرية، بما في ذلك تنسيق نظام وقف إطلاق النار، وإنشاء 4 مناطق لتخفيف التوتر في سوريا.

 

للتسوية مآرب أخرى

التسوية السياسية المرتقبة تحفظ ما تبقى من دماء السوريين، وتنهي الأزمة، كما تحقق مصالح أطراف التحالف الثلاثي.

فروسيا وإيران حققتا هدفهما من دعم الأسد، وضمان وجوده في أية معادلة مستقبلية، وإبعاده عن الملاحقات القضائية الدولية، وضمنت طهران تأمين امتداد عمقها الإستراتيجي في الداخل السوري وراتباطه بالاتصال بحزب الله اللبناني، كما أمّنت أنقرة حدودها الجنوبية، ووجهت ضربات قوية لأحزاب ومجموعات كردية مسلحة تصنفها تنظيماتٍ إرهابية.

وعلى الرغم من النجاح الذي أحرزه هذا التحالف الثلاثي، وحصره لحل الأزمة في سياقه فقط بعيدًا عن الغرب، وهو ما تجلى في سحب القوات الروسية، ودلالة ذلك في اتساع النفوذ الروسي مقابل نظيره الأمريكي في المنطقة، إلا أن ثمة أغراضا أخرى ربما تقف وراء قرار “بوتين”.

“أشرف الصباغ” الكاتب المتخصص في الشأن الروسي، رأى أن قرار “بوتين” سحب القوات الروسية من سوريا له علاقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، مشيرًا إلى أن الرئيس الروسي يرغب في تحقيق أعلى مستويات الرضا في الشارع الروسي قبل الانتخابات.

وكان الرئيس الروسي أعلن الأسبوع الماضي، أنه سيترشح لولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في مارس 2018، والتي ستبقيه في الحكم حتى عام 2024 في حال فوزه فيها.

مركز “ستراتفور” الإستراتيجي الأمريكي، قال في تقرير تزامن مع الانسحاب الروسي الأول من سوريا، إن روسيا وجهت بتدخلها في سوريا عددا من الرسائل التي استهدفت بشكل خاص الولايات المتحدة، فحواها قدرة “موسكو” على فرض توجهاتها خارج حدودها، واستعراض قدرات الجيش الروسي القتالية.